السيد هاشم صفي الدين
إن الغوص في بحر الإمام الخميني قدس سره عميق جداً يدر اللآلئ والكنوز في مختلف المجالات عمقاً وانتشاراً، إلاّ أن الحديث عن العلماء عند الامام له ميزته الخاصة وأدلته الفريدة، فهو حديثٌ يتجاوز الرأي والدور المرسوم نظرياً إلى مرحلة التأمل في تجربة الإمام العريضة حيث أنه العالم والفقيه الذي امتاز بأعلى درجات الصدق في تجسيد الفكرة والدور، وإنَّ شمولية الشخصية عند الإمام في أبعادها المختلفة كفيلة ببيان نظرته للعلماء وكيف يجب أن يكونوا، لذا سأحاول التعرض لهذا المومضوع وضمن الوقت المتاح من خلال التوقف عند بعض العناوين التي تشكل في جزءٍ منها مقومات البنية العلمائية، وفي جزءٍ آخر الوظيفة المطلوبة، ولنرى أيضاً كيف مزج الامام بأسلوبه الفريد ونظرته الثاقبة وعرفانه الرحب بين الفكرة والممارسة.
* أولاً – العلم:
إن المقوّ الأساس لوصف العالم هو العلم. ومن دونه لا موضوع للبحث عن الدور وما شاكل، والامام الخميني قده استفاد من دعوة الاسلام إلى التعلم والمعرفة واعتبرها ضرورة لجلاء الحقائق وصقل الأنفس. فالعلم يفتح للانسان أبواب الأنوار التي تضيء الطريق وتعين على اجتياز العمر بالهداية والطمأنينة لذا نجد أن الاما ركّز على أهمية صرف العمر في تحصيل العلوم وهضمها، والتأني في الولوج في مداركها لتكون جزءاً حقيقياً من الشخصية الانسانية. وإذا كان المقصود هنا أولاً هو العلوم الاسلامية فقد دعا طلبة العلوم الدينية الذين يتهيأون لحمل مسؤوليات التربية والتعليم والهداية، أن لا يستعملوا فهم هذا الاسلام من دون تدقيق أو تمحيص أو تروٍّ، سيراً على خطى العلماء الأوائل الذين أفنوا أعمارهم في سبيل تشييد معالم هذا الدين، ودرءاً لفهم منقوص ومتجزأ، وذلك لأن خطأ المتصدي للشأن العلمي سيترك آثاراً سيئة على سائر أفراد المجتمع والأمة ومستقبلها وأن عنوان كل مرحلة في تاريخ الأمة يؤشر إليه مستوى فهم وممارسة العلماء، وهذا بحد ذاته يحتاج إلى بذل جهود كبيرة على مستوى التحقيق في النصوص والتاريخ والأصول المعتمدة للوصول إلى العلوم الإسلامية. لذا نجد الامام في كل مراحله العلمية حينما كان طالباً وحينما أصبح مدرِّساص كان يؤكد على ضرورة السير بالبحث العلمي بشكل منهجي من خلال التدقيق والتحقيق والمناقشة والمساءلة ليصل الطالب إلى إدراك المباني والتفريعات بشكل متين وواثق وطالب العلم الذي لا يحقق لم يكن ممدوحاً عند الإمام بل وكما ينقل تلامذته كان يشجعهم على البحث وإيراد الاشكالات ويعتبر ذلك هو المنهج السليم الذي يوصل إلى معرفة وافية. ولعل السبب الأساس في دعوة الامام هذه هو إدراكه بشكل قاطع وحاسم ضرورة التبحر لادراك روح الأحكام ليقوى حاملها على تبني مشروع بمستوى الاسلام المحمدي الأصيل.
* ثانياً: التزكية:
إن المخاطر التي يواجهها أهل العلم كبيرة جداً على مستوى الدنيا وحبائلها، حيث أن العلم بطبعه يرفع مقام الانسان في محيطه، ويُشار إلى العالم بالبنان، وأنه يمثل الوحي الالهي وأحاديث رسول الله وأهل البيت عليهم السلام وقد أرجع الإسلام الناس إلى أهل العلم وأعطاهم مقاماً خاصاً وشأناً إضافياً، وهذا ما يجعل العالم في معرض ابتلاءات جديدة إذا غفل عنها قد يُصاب بما لا يحمد عقباه ويصيب الأمة بالخيبة. والإمام التفت إلى هذه الخصوصية جيداً وأولاها عناية خاصة وأخذت حيزاً كبيراً من اهتماماته على مستواه الشخصي، وعلى مستوى ادخال عنصر التزكية والتربية بشكل فاعل إلى جانب التعلم. واعتبر أن العالم بقمدار ما يمكن أن يكون سبب هداية وصلاح للناس يمكن أن يصبح قاطع طريق أوس بب ضلالة إن أخلّ بشروط التزكية. "فإذا لم يكن العالم مهذباً فإنه سيكون عديم النفع، مضراً لنفسه ولأمته وللإسلام، حتى وإن كان عالماً بأحكام الاسلام، أو عالماً بالتوحيد". ولعل من أهم انجازات الإمام على هذا الصعيد انه ربى جيلاً من العلماء حملة الفقه والحديث والمعرفة، كانوا على أتم الاستعداد لنكران الذات والانصياع للأوامر الالهية، ومنهم من قدم نفسه وحياته كلها في سبيل الأهداف الالهية المقدسة. ولذا نرى أن قسماً كبيراً من هؤلاء العلماء أصبحوا شهداء لأنهم صهروا أنفسهم وعلومهم ومقاماتهم في مشروع الأمة وليس مشاريع شخيصة وما شاكل. وفي المقابل نجد أن الامام واجه فئة من وعاظ السلاطين والمتحجرين الذين شكلوا عائقاً وسداً في وجه مشروع الأمة نتيجة عدم الالتفات إلى جانب التزكية، وهذا يدلنا بوضوح أيضاً أن الإمام في كل خطواته، لم ينس المشروع الأساس الذي يجب أن يكرس العلم والعلماء في سبيله.
* ثالثاً – الاطلاع على مقتضيات الواقع:
من خلال معرفة العلماء بالواقع المعاش والعلوم الرائجة والنافعة في كل عصر. حيث أن المتبادر غالباص لوظيفة العالم الديني وبحسب الارتكاز التاريخي الناشيء من ظروف متعددة وملتبسة، هو الاقتصار على بيان الاحكام والوعظ دون معالجة الواقع ومعرفة مقتضياته من أسلوب خاص، أو غوص وتبحر في إدراك المشاكل التي تواجهها الأمة، أو الأفكار المنحرفة التي ترمي بثقلها على واقعها. وهذا الفهم الخاطئ للدور يساهم في تقديم الفكر الديني مبعثراً وخالياً من روح التفاعل والحيوية والتي يتطلبها أبناء كل عصر، مما يولّد بالتالي بعداً عن الإسلام وهجراناً للأحكام الالهية، والأمة أبتليت فيما مضى بفهم من هذا القبيل وحصدت آثار هذا الفهم الخاطئ المنقوص، والإمام قدس سره قد التفت إلى هذا الامر بدقة واعتبر منذ البداية أن وظيفة العالم ليس فقط تبليغ بعض الأحكام العادية الفردية في نجاسة أو طهارة، بل إن الوظيفة الأهم والأبلغ هي تمثيل الاسلام على سعته وشموليته، والإسلام هو دين الحياة، وأن أحد أعظم مميزات التشريع الاسلامي هو قابليته للتطبيق في مختلف الظروف والأوضاع، وأنه يحمل في ذاته القدرة والحيوية الكافية التي تجعل منه حلاً لمشاكل الانسانية، بل حاجةً لبناء الفرد والمجتمع والدولة، وهذا المعنى ليس قابلاً للتحقق ما لم يتم نوع من الانفتاح النظري والعملي على شؤون الحياة المعاصرة ومعالجة قضاياها وتقديم الرؤية الاسلامية الكاملة، اعتماداً على أصالة الفكر وشمولية الدور، وفي هذا المجال يقول الامام قدس سره: "على الحوزات العلمية والعلماء أن يكونوا على إطلاع بنبض تفكير المجتمع، واحتياجاته المستقبلية دوماً، وأن يكونوا على أهبّة الاستعداد قبل وقوع الحوادث على الدوام، لاتخاذ المواقف المناسبة عند وقوعها".
أما عن المواصفات التي يجب على المجتهدين التحلي بها فيقول قدس سره: "يجب أن يتحلى المجتهد بالذكاء والفهم والفراسة اللازمة لهداية مجتمع إسلامي كبير، بل حتى لمجتمع غير اسلامي، وأن يتحلى. علاوة على الاخلاص والتقوى والزهد التي هي من شأن المجتهد. بحسن الإدارة والتدبير"، ومن المؤسف جداً أن الأمة الاسلامية فيما مضى وإلى اليوم ابتليت بنمطين تم تقديمهما على أنهما متخالفان أو متنافران أحياناً، المنط الأول هو الجمود والتقوقع والانزواء، والثاني هو الافراط في قبول الأفكار المعاصرة. حيث ولّد النمط الأول الغربة عن الدين. وسُلّمت الأمة بأبنائها وخيراتها إلى الأعداء. والنمط الثاني ولّد انحرافاً وتشويهاً وخلطاً في المفاهيم. بينما نجد أن الامام الخميني قدس سره زاوج بين الأمرين من دون تكلّفن فكانت الأصالة هي نفس عيش الواقع ومقتضياته، وكان الانفتاح على العلوم والمعارف الإنسانية هو انعكاس طبيعي وعفوي للأصالة التي يختزنها الدين. وأن السبب في الضياع الذي نجد بعض معالمه إلى اليوم هو أحد اثنين: قصور في فهم الإسلام، أو ضعف في قبال الواقع المعاش، وكلاهما خطأ. وأن المتتبع لكلام الامام وتوجيهاته وقيادته للأمة وبناء الجمهورية الاسيلامية في ايران، يرى بوضوح كيف وفّق بين الأمرين دون خلل ومردُّ ذلك إلى وضوح وجلاء الفكرة والموقف معاً، وهذا ما نلمسه من خلال قاطعيته في إصدار الأحكام والمواقف لتأتي مطابقة لمقتضى الحال.
* رابعاً – التصدي لشؤون الأمة:
الاسلام عند الامام الخميني قدس سره ليس طقساً عبادياً، والعالم ليس شكالاً خارجياً ومظهراً لحاجة روحية يلجأ إليه أصحاب العقد النفسية، أو يتمسك بفتواه السلطان الجائر ليقهر بها الناس وإرادتهم. العالم عند الامام يجب أن يكون مظهر الاسلام في التصدي لمختلف شؤون الحياة في المعرفة والهداية والحكم والتصدي على المستوى الفكر والتبليغي والمعنوي والسياسي والقضائي وإلى ما هنالك...
العالم هو عنصر فاعل في المجتمع والحياة بل هو الرائد في حمل قضايا الناس وهمومهم واخراجهم من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، ومن ظلمات القهر إلى نور الحرية، ومن ظلمات الجور إلى نور العدل وهكذا... وهذا ما يرمي إليه الامام الخميني حينما يشرح الحديث القائل: أن العلماء أمناء الرسل أو أنهم حصون الاسلام- فكيف يكون العالم حصناً للاسلام ومحامياً ومدافعاً عنه ما لم يتصدَّ لقضايا الناس؟ هل الوعظ في المسجد لوحده يحقق هذه الحماية؟ هل الارشاد والتوجيه التربوي والاخلاقي كافٍ لتحقيق هذا الغرض؟ وما نفع ذلك في مناخ يسوده الظلم والطغيان والفساد؟ فحال العالم هنا كالطبيب الذي يريد أن يعالج حالة مرضية، لا يكفيه الانكباب على النتائج دون ملاحظة الأسباب والعوامل المؤثرة في تكوين هذا المرض، ولعل الضعف في الأثر المرجو لحركة بعض العلماء في الوسط الاجتماعي أحياناً مرجعه هو عدم ملاحظة هذه الأمور بشكل وافٍ، بل ما يمكن أن نقطع به هو أن أحد أهم أسباب تراجع أمتنا هو انكفاء العلماء عن القيام بهذا الدور والواجب، فكيف الحال إذا كان دور البعض هو التغطية لبعض الأعمال الباطلة والظالمة، ومن خلال هذه النظرة الواقعية ومن خلال الرجوع إلى أصالة الاسلام أسس لنظرية ولاية الفقيه والتي هي تشخيص لدور العالم المجتهد في قيادة الأمة لرفع شأنها واعزازها والوقوف بوجه كل الطامعين واعتبر الامام في بعض كتاباته الأولى أن سبب مصائب المسلمين هو عدم إدراكهم لهذه الحقيقة وهذا المفهوم. واعتبر الإمام أن العالِم هو سياسي من الدرجة الأولى وأن التصدي السياسي من موقع العلم والتقوى يزيد طمأنينة الناس المكلفين في اتباع قيادتهم.
وكان يرى أن "دعوة الاسلام لا تقتصر على المعنويات كما أنها لا تقتصر على الماديات أيضاً، بل تشملها معاً، بمعنى أن الاسلام والقرآن جاءا لبناء الانسان وتربيته في جميع المناحي".
ومن هنا اعتبر أن "الاسلام دين عبادي سياسي، وسياسته تنطوي على جنبة عبادية، كما أن عباداته تنطوي على جنبة سياسية". ومما لا شك فيه أن الامم في البداية واجه مخالفةً حادة لهذه الفكرة لكنه مع الأيام ومن خلال التجربة المقرونة بالمظلومية، والعبر والثبات تمكن من اثبات حقانية هذه الرؤية وجوائيتها، وقدّم في ذلك النموذج الحي الذي أرضى الناس وجعلهم يعتمدون على هذا النمط من القيادة. وهنا لا بد من الاشارة إلى أن هذه الفكرة لا تلغي الآخرين أو تقلل من شأنهم كما ربما يتوهم البعض ولا تجعل شؤون الأمة حكراً على فئة من الناس دون غيرهم، وكأن في الأمر تعصباً لفئة خاصة تريد أن تستأثر لنفسها وتدّعي المعرفة الكاملة في كل شيء، فهذا أيضاً مرفوض بمنطق الاسلام، فالعالم الذي يتصدى للشأن السياسي أو الاقتصادي أو القضائي أو الاجتماعي من موقع العلم، هو أحد هؤلاء الناس يعيش معهم ويحمل همومهم، ويجوع حينما يجوعون، ويجاهد هين يجاهدون، ويستشهد حينما يستشهدون، وهذا ما يجعل علاقة خاصة ووطيدة بين أفراد الأمة وعلمائها ويجد الناس في العلماء الحضن الدافئ والصدق الكامل وبالتالي يجعلهم يزدادون ثقة بالمشروع والقضية، وليس غريباً أن نجد الامام في دعوته للعماء وطلبة العلوم الدينية يؤكد على عيش هؤلاء لكل قضايا الناس بتواضع ومحبة، وليس غريباً أن نجد أن جبهات القتال في ايران الاسلام امتلأت بالعلماء، فمنهم الجرحى والأسرى، ومنهم الشهداء، وهذا بحد ذاته يربط الأمة بأحد أهم عناصر القوة والضمانة في مواجهة قوى الاستكبار ويجعلها تعيش الحلم بالاستقلال على أنه واقع يتحقق.
في الختام إن التتبع لنظرة الامام للعلماء يرشدنا بوضوح إلى أن الامام أراد لهذا الصنف من الناس أن يكونوا الجزء الوفي والصادق في مشروع الأمة، ليكونوا في خدمة الأمة دوماً، ويحفظوا مقدراتها، وليواجهوا العدو الطامع الذي فتك بها وبذلك يتحقق الخلاص والسلام.
(إن الوظيفة الأهم للعالم هي تمثيل الإسلام على سعته وشموليته لمختلف جوانب الحياة الفردية والاجتماعية).
(لقد زاوج الإمام بين الأصالة ومقتضيات الواقع فكان الانفتاح على العلوم والمعارف الإنسانية إنعكاساً طبيعياً وعفوياً للأصالة التي يختزنها الدين).
(إن نظرية ولاية الفقيه هي تشخيص لدور العالم المجتهد في قيادة الأمة لرفع شأنها واعزازها والوقوف بوجه كل الطامعين).
(الإسلام دين عبادي سياسي، وسياسته تنطوي على جنبة عبادية، وعبادته تنطوي على جنبة سياسية).