مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تسابيح جراح: بحمى حرز علي (2)

لقاء مع الجريح المجاهد حسن نزيه طه (حيدر)
حنان الموسويّ


"ركنتُ حياتي على جانب الزمن. أنا مدلّل والدتي والأقرب إلى خافقها. يعلم الله كمّ الهلع الذي عشته خوفاً عليها. طالما دعوته أن يرينيها في عالم الرؤيا، كي أرتشف القليل من ابتسامتها، فأحيا ويطمئنّ قلبي كإشارةٍ منه أنّها بخير. صرفتُ فكرة الوهم التي تسرّبت إلى صورها المشعّة على رفوف ذاكرتي، وسلّمتُ أمري وأمرها إلى الله، مع جزيل الأمل أن يأخذ الله سنيني ليزداد عمرها. وكنت ولا زلت بحمى حرز عليّ".

نستكمل رحلة الأسر والعذاب مع الجريح المجاهد حسن نزيه طه، والتي أثمرت في نهاية المطاف حريّة.

* صبرٌ وحريّة
على أهبّة الانشطار حزمنا حقائب التضرّع. مرّ وقتٌ طويلٌ والابتزاز ما زال قائماً. نذرنا لله صوماً مدّة أسبوع إن ما صدق الطغاة بوعودهم؛ فكلّ ما سمعناه منهم كان كزهورٍ غافيةٍ في حقلٍ محروق، وسرابٍ يذوب مع الفجر. كانت الأنباء تتناقل على ألسن الدواعش عن إنجازات المقاومين من تحرير أراضٍ وعملياتٍ ضدّ التكفيريّين، إلى أن استحكم بهم الضيق، فعرضوا المبادلة. وقيادتنا الحكيمة التي ما تركت يوماً أسراها، بمتابعتها الدقيقة والحثيثة، استطاعت تحريرنا بكرامةٍ وعزٍّ بعد مرارةٍ لا يعلم حدّتها سوى الله. عمرٌ جديدٌ بدأ بتاريخٍ يحبوه الانتصار، وقد أراهم الخالق ألوان الذلّ والهوان في الدنيا على أيدي المجاهدين قبل عسير الحساب في الآخرة.

* ساعاتٌ مرّت كدهر
كان يوماً يعادل العمر بأكمله. بدأت عمليّة التبادل بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحاً. اصطُحبنا معصوبي الأعين من سجن غرب "إدلب". عبرنا مناطق عدّة لا نعرفها، ضمن إجراءات أمنيّةٍ مشدّدة على الطرقات. للمرّة الأولى، كنّا نجلس وحدنا بدون حراسة من الخلف. قادوا السيّارة مع مواكبةٍ شديدةٍ حتّى وصلنا إلى معبر "السعن". انتظرنا وصول المسؤول الأمنيّ في جبهة النصرة، أبو عبد الرحمن، الذي حُنِّط الدمعُ في عينيه ذلّاً، فأخبرنا أنّ عمليّة التبادل ستتمّ حاليّاً، ولكنّ أرواحنا ما زالت بين يديه، وعند أيّ خللٍ، ستتمّ تصفيتنا.

جزعهم العتيق كان بادياً عليهم، وعلامات الارتباك ظهرت جليّة. مرّت لحظات بلغت فيها القلوب الحناجر، لكن قريباً سيبزغ من خراب الشام بدرٌ، يزلزل كلّ أركان الظلام.

بدأت عمليّة التبادل قرابة الساعة الثانية ظهراً. كان الاتّفاق تحريرَ أسيرٍ مقابل عبور عشرين باصاً تقلّ المسلّحين تحت إشراف جمعيّة الهلال الأحمر. موسى كوراني كان أوّل المحرّرين، تبعه محمّد ياسين، وأنا كنتُ المحرّر الثالث، والرابع أحمد مزهر، والخامس محمّد مهدي شعيب. تفصل ساعتان كل مرحلة تبادلٍ عن الأخرى. عيوننا أفقٌ من الغبطة؛ فقيادتنا حرّرتنا بعزٍّ يردُّ اعتبار الشمس. وبخيال سيّدنا القدسيِّ، يقطن لؤلؤ اليقين أنّ المظلوم منتصرٌ لا محالة، ويقينه واجب التحقّق.

* إنّها أمّي!
استغرقت العمليّة نحو خمس ساعات؛ أي حتّى السابعة مساءً. في شيبة الطهر فجرٌ مرهفٌ.

عبرنا إلى الضفّة الأخرى من المعبر مع الإخوان. استقبلونا بأعراس الفخر والسؤدد والجاه. هو يومٌ لا يُنسى؛ فقد تعبت الأرواح على الشفاه بقدر ما انتظرناه. عدنا إلى الأهل. أوشال دمعاتنا الطائحة لم تجفّ، فانهمرت سيلاً حين سمعتُ صوتها في خلوة الصبر يُتلى مصحفاً. إنّها أمّي! وكم سجدتُ لله شكراً أنّها بخير. كانت ذكراها عِقداً يناغي جيدي طيلة أيّام الأسر.

* تقديرٌ ورجاء
لقاؤنا بسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) بعد كسرنا للأسر، أثلج صدورنا. اعتكفنا في بهو حضنه لساعات، كلامه انسكب ازدحام أنَفةٍ في الدماء، أنّ تكليفنا حماية أنفسنا من الموت، وما قمنا به هو الواجب عينه في وجه جبهة النصرة هاتكي الحرمات، من يجرّون رماد الهلاك والخراب أينما حلّوا. ذلك خفّف عنّا؛ فهذا الأمر ظلّ يُقلقنا طوال فترة الأسر وبعد التحرير.

عامٌ وأشهرٌ تسعة من الأرق، وطّدت علاقتي في الأسر بأهل البيت عليهم السلام، وخصوصاً بالإمام موسى الكاظم عليه السلام؛ فهو المسجون في قعر السجون ظلماً، فكنّا ندعوه بقلوبٍ ذاقت جزءاً يسيراً جدّاً ممّا ذاقه.

* رحلة العلاج
بدأتُ منذ الأسبوع الأوّل رحلة علاجٍ جديدة؛ فالعمليّات التي خضعتُ لها أولى أيّام الأسر، لم تنجح، ما اضطرّني للخضوع لخمس عمليّات جراحيّة: جراحتان لإزالة الرصاص من جسدي، وثلاث جراحاتٍ في يدي، لتركيب مفصلٍ وأسياخ وأجهزة أخرى.

توجد متابعةٌ دائمةٌ لحالتي الصحّيّة من قِبَل مؤسّسة الجرحى؛ فما زلتُ أعاني من مشاكل في أعصاب رأسي وقدمي ويدي. راحتي تتطلّب اجتناب المجهود الجسديّ والنفسيّ، والعكس يسبّب لي اضطراباتٍ وأوجاعاً لا تُحتمل، أعتبرها وسام تقديرٍ من الله، أشكره أن رزقني إيّاها.

* زواجٌ مبارك
قرعتُ أجراس العودة إلى نبض الحياة بعد فترةٍ من نَيلي الحرّية؛ فقد منّ الله عليّ بالزواج من إنسانةٍ صالحةٍ لا تُحصى فيها المآثر. انسجامنا حصل منذ اليوم الأوّل ولا يزال حتّى الآن، لأنّ أصل ارتباطنا لله وفي عينه. زوجتي تعدّ قربها منّي ذا وجهين: وجهٌ يراوده التجلّي والقرب من الله عزّ وجلّ، والآخر لتكون شريكةً في التضحية إلى جانب أسيرٍ جريحٍ؛ فمزّقت خرائط الارتياب، واختارت أن تقضي أيّامها معي. أعبّ منها العزم والقوّة؛ فهي السند الذي يقوّيني في كلّ أموري. رُزقت منها بطفلتين، زينب وجنى، وهما عالمي الأجمل. وجود عائلتي لم يدفعني لأنكث بأمنية الشهادة؛ بل منحني دافعاً أكبر للمضيّ قدماً، فعدتُ إلى مقاعد الدراسة في الجامعة لمتابعة تخصّصي بعد فترة علاجٍ شاقّة ومتعبة، صارت مجرّد ذكرى أليمة.

* كلام القلب
للسيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أقول: إلى محرابك الورديّ تهفو النفوس، وعقيق خاتمك السخيّ بلسم أرواحنا، نحن، يا سيّدنا، لو أُسرنا وعُذّبنا وذُبحنا آلاف المرّات، ما تركناك ولا تخلّينا عن بيعتك، وكلّ ما أُجبرنا على قوله مكرهين لا يمثّلنا. لو أنّك تدري كم كان يحرقنا ويعذّبنا قبل وصوله إليكم، ونزع أرواحنا لأحبّ إلينا من التفوّه به، لأنّ كمّ حبّنا وعشقنا لسماحتكم، لا يرقى إليه أيّ حبٍّ أبداً. وإنّ قولك: نحن لا نترك أسرانا في السجون، لم يغب عن أذهاننا لحظة، يقيننا حاسم وقاطع أنّك صادق الوعد.

للمجاهدين، والجرحى، والشهداء وأبنائهم، أقول: كلّ كلمات الشكر في الوجدان عاجزةٌ عن وصف ثنائكم. مهما قلنا لن نفيكم جزءاً من حقّكم، وأتمنّى أن تقبلوني خادماً لكم. ولعوائل الشهداء الذين قدّموا أغلى ما يملكون، أقول: نتمنّى أن تعتبرونا أبناءكم.

نحن أبناء آل بيت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وأبناء الإمام الخمينيّ قدس سره والسيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله، والشهيد السيّد عبّاس الموسويّ والشيخ راغب حرب (قدس سرهما)، ونحن جنود السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، نلهث خلف العزّ، ومهما طاردنا الموت نهزمه. لا يأس ولا هوان في مسيرتنا، ولا تراجع عن المبادئ والعقيدة، والخضوع معدمٌ في عزمنا. قدّمنا الكثير وسنقدّم المزيد ليبقى الدين ونحيا بكرامة. ومع كلّ تهديدٍ يزداد إصرارنا ويتضاعف، خصوصاً أنّ لدينا قائداً مسدّداً من ربّه، لا مكان للهزيمة في ميدان فكره.

لجمهور المقاومة الوفيّ، الذي وصفه سماحة السيّد بأشرف الناس، أقول: أدعو الله أن يتقبّلني خادماً لكم، وأرجو أن يشملني دعاؤكم مجدّداً كما شملني خلال الأسر.

الاسم الجهاديّ: حيدر.

تاريخ الولادة: 25/9/1989م.

مكان الإصابة وتاريخها: حور العيس 13/11/2015م.

نوع الإصابة: في اليد اليمنى والقدم اليمنى والظهر.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع