أميمة محسن عليق
كانت السيارة اللاهثة تسلك الطريق الطويل صعوداً إلى مسكني.. الكائن في إحدى ضواحي «نيويورك»... طار النوم من عيني في هذه الليلة القاسية.. الصور المؤلمة في جريدة اليوم (19 نيسان 1996) أصابتني بالذهول وأكثر ما شدني فيها صورة «محمد»... لم أصدق عينيّ...
«محمد» ذلك الطفل الشقي الذي كان يركض لاعباً مشاكساً مع رفاقه في أزقة قريتنا البعيدة... قانا..
دارنا في قانا لم تكن بعيدةً عن دارهم كثيراً.. يكفي أن تعد خمساً من أشجار السرو المتراصفة على جانب الطريق وتتعطف يميناً ليستقبلك أهله الطيبون؛ أهل محمد... قتلوا أيضاً... وصارت أسماؤهم خبراً في جريدة..
الجريدة مفتوحة على هذه الصورة التي التقطها مصورٌ بارع.. استطاع اصطياد النظرة الحقيقية لطفلٍ.. يموت..
نظرته تلاحقني فترتجف لها فرائصي.. وكأنني أرى عينيه للمرة الأولى، بدأ شعورٌ في داخلي يتضخَّم وينهض عملاقاً.. هذا الوجه النوراني يزلزل كياني في عينيه الواسعتين صمتٌ عميق ودمعة هي أبداً في قاع بؤبؤه الأسود البعيد... وجهه ساكنٌ هادئ، لكنه موجٍ كوجه نبي معذب.. عيناه الوادعتان أرسلتا شعاعاً صافياً حرَّك روحي.. لماذا تلاحقني هاتان العينان؟ لماذا تلح على رأسي كصفارة القطار عند المنعطف.. لماذا ينظر هذا الطفل الصغير لإنسان مثلي؟ لماذا؟
عناقيد الغضب الإسرائيلية تضرب أرضنا بالقنابل واللهب منذ عدة أيام.. ولم يكسر هذا الجنون روتين أيامي بشيءٍ سوى ملاحقة أسماء الشهداء حتى أطمئن أن لا أحد أعرفه موجود بينهم..
بدأت أستعيد اللحظات الضبابية لما حدث قبل مجيئي إلى أمريكا.. صوت السيارة موسيقى غريبة تدفع بهذا الرأس المرهق إلى الماضي..
شعرت أنني إنسان كان يجب أن يبقى طفلاً.. وبدا للحظة أن حياتي شيء مخجل في الحقيقة وشعرت حين وصلت إلى البيت أن أحلامي واهنة وأن قراري بالسفر إلى هذه البلاد كان هروباً.. يجب أن أذهب، أسافر، سوف أحصل على المال وأرسله لكم، هذه كانت حجتي أمام أمي..
كان «محمد» مع أمه حين جاءت تتمنى لي التوفيق..
ـ ماذا تريد أن أحضر لك عندما أصل؟
ـ سيارة كبيرة ورشاش حقيقي.
.. مكتوبٌ تحت صورة «محمد» أن أمه وإخوته الثلاثة استشهدوا قبله بعدة ساعات..
كل من حولي في هذه البلاد يتابع حياته بشكلٍ عادي: يسهرون ويفرحون ويضحكون.. شيء يدعو للغثيان..
أردت أن أصرخ... انتقض غضباً.. كان صوتي يأتي من عمقِ عمقِ فؤادي وحزني وجزعي... يكسر جدران الصمت والقهر في داخلي... يجب أن أتخذ قراراً..
هاآنذا أعود.. أبداً لن أنسى صورة «محمد» ولن أنسى الوجع الذي اندمج في تفاصيل وجهه... لم يمض على المجزرة سوى 20 يوماً ها آنذا أعود.. أشد باحتقارٍ صارخ على المال الموجود في جيبي تشدني أشياءٌ صغيرة عذبة إلى أحضان الذكريات...
وصلت قانا... كانت جديدة غير التي أعرفها.. أكوام الحجارة المنتشرة هنا وهناك كانت فقط لتقول لي.. إنها البداية... وأنا متأكدٌ أنها البداية فقط... كل شيء في قانا كان ينتقض حزناً وغضباً للشهداء...
كنت بين أحضان القبور وقرب قبر محمد أبحث عن نفسي، فرحت كثيراً لأنني عدت حتى أتعلم من عيني «محمد» وأجساد الشهداء ما هي الحياة... وما قيمة الوجود...
بدأ المطر ينساب بين الرخام، يغسلها حتى ظهرت جلية أسماء الأطفال والنساء التي تضمها... بدت الصور فوق القبور تنتعش مع رائحة المطر... رأيت السماء للمرة الأولى أنقى وأوضح وأصفى...
حملت هدية «محمد» التي أحضرتها معي لستُ أدري لماذا.. لكنني أحضرتها.. كانت صغيرة جداً جداً.. لا تليق بهذا الشهيد الكبير.. شكرتُ هذا الطفل العزيز، بكل خفقان القلب الذي تعذَّب طوال عمره..
لقد كان المنارة التي أشرقت على حين غرَّة أمام زورق حياتي التائه.. شكرته لأنه استطاع أن يغيّرني.. وشعرت بالفخر لأنني هذه المرة هربت من أمريكا ولم أهرب إليها..
مرت أيام وشهور أعيش ملء وقتي في قريتنا..
ها آنذا أتسلل فجراً من باب البيت.. لم يفاجئني وجه أمي حين شاهدت على أطراف ثيابي الوحل والدماء..
لم تسألني عن وجهتي.. لكنني شعرت بالفرح الذي بدا ظاهراً في عينيها...
أعطتني غطاءً أتدثر به.. غفوت محتضناً بندقيتي وجعبتي... وأحلاماً كبيرة.