هي والله ساعة اللقاء قد أزفت، وحانت لحظة وصال المحبوب. إنها هي الليلة (ليلة الثالث عشر من خرداد/ الرابع من حزيران) التي طالما بث إليها الإمام قدس سره أشواق الحنين وأنشد لها أناشيد الشوق المعجونة بألم الهجر والفراق.
لقد نظم الإمام منذ سنين قصيدة اللوعة، ولطالما كان يرددها حتى يقول:
تمر السنون وتتوالى الأحداث
وأنا أنتظر الفرج في منتصف خرداد
ومع اقتراب الموعد وحث الخطى، تحين منه التفاتة إلى قافلة العشاق والأحبة قبل أن نفصل عنها، فيتوجه إليهم بكل عطف ورقة ويودعهم قائلاً: "والآن فإني أستأذنكم، أيها الأخوة والأخوات، لأسافر نحو المقر الأبدي بقلب هادئ وفؤاد مطمئن وروح فرحة وضمير ملؤه الأمل بفضل الله...".
* ترى: كيف كانت لحظات الوداع!
كان الوضع الروحي للجماهير في تلك الأيام مما يعجز الإنسان عن وصفه، فمراسم الدعاء والتوسل تجرى في كل حدب وصوب، في المنازل والحسينيات والمساجد وفي مختلف أنحاء البلاد، بل في كل مكان من العالم وجد فيه محب للإمام. ولعلك في تلك الأيام لا تكاد ترى أحداً وقد تمكن من إخفاء آثار الحزن والغم عن محياه. العيون باكية، والقلوب هافية لجماران. الساعات تمر ببطء شديد، وإيران كلها تلهج بالدعاء. الفريق الطبي المشرف على علاج الإمام استنفد ما في وسعه، غير أن أمر الله يدفع المقادير باتجاه آخر {يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية}.
في تمام الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة قبيل نتصف الليل من الثالث عشر من خرداد 1348 (حزيران 1989م) حانت لحظة الوصال. وتوقف القلب الذي أضاء الملايين من القلوب بنور الله والمعنوية.
انفجرت الدموع في وقت واحد من جميع العيون في إيران وفي كل مكان وجد فيه من عرف الإمام وانتهل من فيض هدايته.
وراح المحبون ويلطمون الرؤوس والوجود.. وتعجز الأفلام. بل يعجز أي بيان عن تصوير إبعاد ما حصل وما تدقق من أمواج من الإحساسات المتلاطمة.
لقد فقدت الجماهير قائدها المحبوب ومرجعها الديني والمنادي بالإسلام الأصيل.. لعل أولئك العاجزين عن درك واستيعاب هذه المفاهيم، يقفون حيارى حينما يشاهدون حالة الجماهير. التي عرضتها الأفلام التلفزيونية، أثناء مراسم توديع وتشييع ودفن الجثمان الطاهر للإمام الخميني، ولعلهم يدهشون حينما يسمعون بوفاة العشرات الذين لم يتمكنوا من تحمل ثقل الصدمة، فتوقفت قلوبهم عن العمل أو بسقوط العشرات الآخرين مغشياً عليهم نتيجة شدة الحزن وانتقالهم من يد إلى يد فوق أمواج هائلة من البشر لينقلوا إلى المستشفيات... إلى غير ذلك.
لكن أولئك الذين يعرفون معنى الشوق والذين امتحنت قلوبهم لذته، يرون كل ذلك أمراً طبيعياً، والحق أن الجماهير كانت عاشقة للإمام الخميني، وما أجمل الشعار الذي رفع في الذكرى السنوية لوفاته، عشق الخميني عشق لكل ما هو جميل..
في الرابع من حزيران 1989م. عقد مجلس الخبراء جلسته الرسمية، ليختار بالإجماع السيد الخامنئي قائداً للثورة خلفاً للإمام رضي الله عنه وذلك بعد تلاوة وصية الإمام السياسية الإلهية على مدى أكثر من ساعتين ونصف الساعة.
لقد سعى العربيون وعملاؤهم في داخل البلاد لسنوات طوال من أجل إلحاق الهزيمة بالإمام، ولما ينسوا من ذلك وعدوا ذيولهم بعهد ما بعد وفاة الإمام. لكن وعي الشعب الإيراني، وسرعة مجلس خبراء القيادة في الاختيار المناسب للتشخيص.
للقيادة، ودعم أنصار الإمام لذلك. بعد آمال أعداء الثورة، ولم يخب أملهم في أن تكون وفاة الإمام نهاية طريقه فحسب، بل أن عصر الإمام الخميني، في الحقيقة، ابتدأ على نطاق أوسع من السابق بعد وفاته. فالفكر والصلاح والمعنوية والحقيقة لا تموت أبداً.
في يوم وليلة الخامس من حزيران 1989م تجمع الملايين من أبناء طهران والمعزون من أبناء المدن والقوى، في مصلى طهران الكبير ليلقوا النظرة الأخيرة على الجثمان الطاهر لرجل أعاد لقامة القيم والكرامة المهطعة في عصر الظلم الأسود استقامتها بقيامه وثورته، وفجر في الدنيا نهضة من التوجه لله والعودة نحو الفطرة الإنسانية.
لم يكن هنا من أثر للمراسم الرسمية الخالية من التوجه فكل شكي كان جماهيرياً تعبوياً. وكان جثمان الإمام الموشح باللون الأخضر موضوعاً على دكة عالية يتحلق حولها الملايين من أصحاب العزاء ويضيء كدرَّة نفيسة. وكان كل واحد من ذلك الجمع الغفير يتمتم بحزن مع إمامه الفقيد ويذرف الدموع. امتلأ المكان وحتى الطرق السريعة المؤذية إلى المصلى بالجماهير الموشحة بالسواد. ورفعت أعلام العزاء على الأبواب والجدران، وانطلق صوت القرآن من جميع المساجد والمراكز والإدارات والمنازل، وما إن هبط الليل حتى أوقدت آلاف الشموع تذكيراً بالمشعل الذي أوقده الإمام، وأضاءت منطقة المصلى وما حولها. تحلقت العوائل المفجوعة حول شموعها وقد تعلقت أنظارها بذلك المرتفع النوراني الذي رقد فيه إمامهم المحبوب.
وكانت صرخات "يا حسين" التي تنطلق من الجماهير الذين شعروا باليتم قد أحالت المكان إلى عاشوراء جديدة. فقد قصمت الطهور، هل حقيقة أن هذا الصوت الرباني لن ينطلق مجدداً من حسينية جمران؟... بقيت الجموع المفجوعة تندب فقيدها حتى الصباح.
وفي أول ساعات يوم السادس من حزيران، أدت الملايين صلاة الميت على جثمانه الطاهر بإمامة آية الله العظمى الكليايكاني ثم ووري الثرى في عصر ذلك اليوم.
إن من المواقف التي أثبتها التاريخ يوم 12 بهم 1357 (9 شباط 1979م)، ويوم تشييع الإمام إذ تكرر في اليومين اجتماع الملايين والطلاق مختلف المشاعر الحماسية والمعنوية. لقد قدر مراسلو وكالات الأنباء عدد المستقبلين للإمام في عام 1979 بستة ملايين شخص، كما صرحوا بأن عدد المشيعين قد تجاوز التسعة ملايين شخص والحال أن الدول الغربية والشرقية تخالفت خلال الأحد عشر عاماً التي أمضاها الإمام الخميني في الحكم ومارست مختلف أنواع المؤامرات وحملت إيران حرباً ضروساً دامت ثمانية أعوام، إلى المئات من المخططات الخبيثة التي كان يهدف من خلالها ضد جماهير الشعب عن الالتفاف حول قائدها، غير أن ذلك لم يتحقق رغم مئات المشاكل التي تحملها أبناء الشعب، ورغم ما قدموه من الشهداء وذلك نتيجة للتربية العقائدية التي مارسها الإمام الخميني فالشعب المجيد كان يعتقد برسوخ بمقولة الإمام الخميني "إن القدرة على تحمل المصائب والمصاعب والمحرومية والتضحية بالأنفس إنما تتناسب مع حجم الهدف وعلو مرتبته".
وهكذا فإن رحيل الإمام أصبح هو الآخر، وكما كانت حياته، منشأ لليقظة والصحوة والنهضة وخلد نهجه وذكراه ذلك لأنه كان حقيقة، والحقيقة خالدة ما خلد الدهر.
لقد كان مظهراً من مظاهر "الكوثر" كوثر الولاية الجاري في الأرض والزمان وستظل حكاية هذا العيد الصالح باقية مدى الدهر.
والسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.