أميمة محسن عليق
... كنت أهم بالخروج من البيت بسرعة... حين استوقفني نبأ في بداية النشرة الإذاعية "والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم".
تزف المقاومة الإسلامية إلى شعبها الأبي الشهيد المجاهد "إبراهيم حيدر" الذي استشهد....
... سمعت الاسم.. ارتعش قلبي في صدري.. تجمدت قليلاً.. لم أعد أريد الخروج صرت أذرع الغرفة بالسير ذهاباً وإياباً بحيرة وغموض... كمن يبحثُ باضطراب عن حقيقة مشاعره... حاولت وحاولت.. أن أفهم ما الذي يجري..
- ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة.. اسم واحد.. يهزّ الكيان ويحيل الذات سكوناً غامضاً.. تشبه صلاةً خارج الزمان والمكان..
إبراهيم حيدر.. إبراهيم حيدر.. أخيراً تذكرت.. فرحتُ وكنت كالذي وجد طفله في مخبأ صغير يغطّ بالنوم بعد بحث طويل عنه..
- أنه هو.. أنه هو... كيف أنساه... ذلك التلميذ اللامع على المقعد الأول في صفه، أنه تلميذي الذي لم يكن أتم السابعة حين كنت أدرّسه منذ زمن بعيد قريب.. تلك الأعوام السبعة كانت كافية بالنسبة إليه ليملأ الصف حركة وحيوية ومشاغبات لطيفة..
- أطبقتُ أجفاني بذهولٍ وسرت وراء خيال وجهه الطفولي.. كأنني الآن أسمع رنين ضحكاته...
يخرج من بين طيات الذكريات...
تزدحم الصور أمامي معطّرة برائحة الكتب والدفاتر الملونة بأيد صغيرة.. صور ضبابية..
لعل غبار الطبشور الأبيض ينجلي عنها الآن بعد كل هذه السنوات.. فترجع ألوانها ناصعةً نقية..
إنه إبراهيم.. الذي كان يأسرني بضحكته الساحرة فلا أملك إلاّ أن أضحك له رغماً عني مهما فعل.. فأضمه بحنان وأعفو عنه.. "إبراهيم اجلس"... "أحسنت ولكن بدون حكي.."... "خطك جميل ولكن..." ما زلت أذكره، وأنا أرافق طلاب صفه خلال الفرصة.. يمسك بيدي لنمشي معاً في الملعب يحدثني كالكبار: "رغم كل شيء"! أنا أحب المدرسة "وأحبك أيضاً.." أحدق في عينيه الوادعتين.. فيغمرني دفء كبير..
- أنها أمي.. جاءت تسألك عني! "هتف لي مرة"..
- تشرّفنا.. إبراهيم ولد رائع.. وذكي ومحبوب رغم بعض الشيطنة".
- نعم، وفي البيت أيضاً...!.
لجميع يحبه "ولكن يعذّبنا كثيراً". (قالتها أمه همساً).
- إبراهيم تعال.. وعدني أمام أمك أنك لن تلعب بشكل فوضوي بعد الآن في البيت وفي الصف..
ابتعد الطفل بعد أن شم "رائحة مؤامرة".. خرج ضاحكاً.. وهو "يخرطش" بالطبشور على اللوح.. خطاً طويلاً باتجاه الباب.. كأنه لم يسمع.. مقامه فتدلل.. وتاه دلالاً..
... أريد من كل واحد منكم أن يخبرني: "ماذا سيفعل عندما يكبر..".
- أنا سأصبح طبيباً...
- وأنا معلمة...
- أنا سأرسم...
- وأنت يا إبراهيم؟!.
- أنا "سأذهب" مع المقاومة وأدّى تحية عفوية وبدأ بإصدار صوت رشاش.. ممثلاً بيديه وقد حول المسطرة إلى بندقية.. ضحك رفاقه طويلاً.. أما أنا فقد زاد عندي تألقاً.. هذا "المقاتل الصغير".
- سوف أشتاق لكم جميعاً هذا الصيف.. العبوا جيداً.. ولا تنسوا أن تدرسوا أيضاً وتكتبوا فروض العطلة: "جملة الوداع التقليدية تلك السنة... كانت آخر لقاء.. مع طلاب رائعين..
كان إبراهيم بينهم.. ملاكاً مهماً تشيطن.. قال حينها مودعاً "ندرس في الصيف!... نريد أن نلعب.. إلى اللقاء.." وخرج تاركاً ذكرى جميلة بين رفاقه وفي حنايا قلبي.. لتمر السنوات.. عر وأكثر.. انتبهت لنفسي فجأة.. أقف على ساحل الذكريات.. ألملم أصداف الماضي.. أضمها.. فقد صارت الآن أغلى وأجمل.. عاد إبراهيم "مقاوماً" وشهيداً كما أراد منذ الصغر..
رميت الأصداف في البحر.. كمن ينثر الورد في موكب العرس.. وروداً أرسلها لك يا صغيري... وأرسل معها عمراً من الاحتجاج الطفولي... يغمرني الفرح لأني عرفتك يوماً.. أفتخر بهذه المعرفة القديمة مع كل الفرح.. لم أمنع نفسي من البكاء.. ففي العرس أيضاً تكون الدموع... وإلى الآن أسأل.. من كان منا حقاً معلماً للآخر..
أنا أم أنت يا صغيري.. يا معلمي..