سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111). صدق الله العلي العظيم.
* مناسبات مباركة
توافق ذكرى قادتنا الشهداء في هذا العام مناسبتان بارزتان:
1 - من الناحية الهجريّة، تصادف شهر رجب. وفي هذا الشهر الكريم، شهر رجب، العديد من المناسبات الدينيّة المهمّة، المرتبطة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأهل بيته الأطهار عليهم السلام، وتحتاج إلى انتباه وعناية وإحياء، مع مراعاة كلّ الظروف والإجراءات الصحيّة. كذلك شهر رجب نفسه وما فيه من خصوصيّات عباديّة، يجب أن نُلفت النظر إليه، وما ورد من استحباب صيامه والعبادة فيه والدعاء والابتهال. وأمّا أبواب التوبة المفتوحة، فهي فرصة يجب اغتنامها مع الله سبحانه وتعالى.
2 - من الناحية الميلادية، شهر شباط، يترافق مع ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، بقيادة سماحة الإمام الراحل الإمام الخمينيّ قدس سره، وتأسيس الجمهوريّة الإسلاميّة. لقد تعرّضت هذه القيادة وهذه الثورة للكثير من الحروب والعقوبات والمؤامرات والحصار، ولكنّها صمدت، وأكثر من ذلك، تطوّرت على كلّ صعيد، حتّى باتت قوّة إقليميّة عظمى يُحسب لها كلّ حساب. هذه التجربة في إيران منذ انتصارها في 11 شباط 1979م إلى اليوم، تُشكّل دائماً حجّةً إلهيّة وحجّةً عقليّة وحجّةً عقلائيّة، على كلّ شعوب العالم وعلى كلّ الأمم، أنّه من خلال الحضور في الساحات، ومن خلال الوحدة والعمل الدؤوب والجدّ والاجتهاد والجهاد والتضحيات والثبات والاستمرار، يُمكن لهذه الأمّة أن تُحافظ على كيانها الوطنيّ والقوميّ، وعلى قيمها الدينيّة والوطنيّة والإنسانيّة، وعلى استقلالها وسيادتها ومواردها الطبيعيّة وإمكانيّاتها وكرامتها وعزّتها وحريّتها وشرفها، وتَحجز لها مكاناً متقدّماً في الإقليم وفي العالم.
* للقادة صفات مشتركة
نعود إلى ذكرى قادتنا الشهداء، الذين بايعوا وجاهدوا واستشهدوا وفازوا فوزاً عظيماً؛ وهم سيّد شهداء المقاومة الإسلاميّة السيّد عبّاس الموسويّ، وزوجته الفاضلة السيّدة أمّ ياسر وطفلهما حسين، وشيخ شهدائنا الشيخ راغب حرب، والقائد الجهاديّ الكبير الحاج عماد مغنيّة. كنت دائماً أنطلق من الصفات المشتركة، التي هي كثيرة جدّاً بين هؤلاء القادة الأعزّاء.
من هنا، سوف أشير إلى بعض هذه الصفات المشتركة، حتّى نُقدمها كقدوة وأُسوة لأولادنا، وأحفادنا، والجيل الحاليّ وللأجيال الآتية، وهذا أحد أهداف إحياء هذه المناسبة في كلّ عام.
1 - الذوبان في مشروع المقاومة
من جملة الصفات المشتركة في هؤلاء القادة الأعزّاء الذوبان في مشروع المقاومة، وبتعبير آخر: التمحّض في مشروع المقاومة، وفي حركتها، وفي جهادها؛ أي لم يكن لأيٍّ من هؤلاء القادة الكبار أيّ مشروع آخر، وأيّ هدف آخر سوى هذه المقاومة، إذ إنّ همّهم وغمّهم وعقلهم وقلبهم وروحهم وتفكيرهم ومشاعرهم وعواطفهم ووجودهم وكيانهم مُتمحّضٌ في هذه المقاومة. ولذلك هم بدأوا هذه المقاومة في ريعان الشباب، وأمضوا زهرة شبابهم في هذا الطريق، ووصلوا الليل بالنهار والنهار بالليل، ولم يهدأوا ولم يَستكينوا ولم يَملّوا ولم يَكلّوا ولم يَيأسوا، وقد استشهدوا وهم في سنّ الشباب أيضاً.
عادةً، عندما يتقدّم الناس بالسنّ قليلاً، يبدأ شعور الملل والضجر يتملّكهم، أمّا هؤلاء فهم مدرسة لنا، لأنّهم ما مَلّوا وما كَلّوا وما تَعبوا وما تَراجعوا وما وَهنوا وما ضَعفوا، على الرغم من كلّ الظروف الصعبة والقاسية التي كانت تُحيط بالمقاومة، منذ العام 1982م إلى العام 2008م، أي منذ استشهاد الشيخ راغب وحتّى استشهاد الحاجّ عماد. كلّ هؤلاء الشهداء عايشوا ظروفاً صعبة جدّاً، ومرحلة قاهرة وقاسية، ومع ذلك، تحمّلوا كلّ ذلك.
فالسيّد عبّاس كانت سيارته هي بيته، إذ كان ينام ويأكل في سيارته، وكان دائم التجوال بين المناطق وبين المحاور، والحاج رضوان كان دائم التنقّل من ساحة إلى ساحة، والشيخ راغب من قرية إلى قرية. إذاً، لم يُغادروا هذه الساحات، فالشيخ راغب بَقي في قريته في ظلّ الاحتلال، وكان يُمكن أن يُقتل في أيّة لحظة، ولكنّه لم يُغادر الجنوب. وكذلك السيّد عبّاس، كان دائم الحركة، وكان يَعرف أنّه سَيتعرّض للاغتيال في أيّ لحظة من اللّحظات، والأمر نفسه ينطبق على الحاج عماد، ولكنّ ذلك لم يَمنعهم على الإطلاق من أن يُواصلوا عملهم.
2 - وصاياهم أمانتهم فينا
جانب آخر أيضاً أَودّ أن أُشير إليه عند هؤلاء القادة الشهداء، هو وصاياهم، التي هي بِمثابة أمانة عندنا وعند الأجيال الآتية.
أ- الموقف سلاح: لم تكن جملة الشيخ راغب حرب، جملة عابرة عندما قال: "المصافحة اعتراف والموقف سلاح"، في وقت كان جزء كبير من لبنان يمتلئ بعشرات آلاف الضبّاط والجنود الإسرائيليّين، وآلاف الدبّابات الإسرائيليّة، ومع ذلك، رفض أن يَمدّ يده عندما مَدّ ذاك الإسرائيليّ يده للمصافحة! ففي تلك الظروف الصعبة، إنّ "أعظم الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر"، وعند سلطان ظالم، فكيف إذا كان هذا الجائر هو هذا الإسرائيليّ والصهيونيّ المُحتلّ والمُغتصب؟
هذا الموقف الذي أطلقه بات سلاحاً في هذه المعركة، بل من أقواها وأمضاها؛ لأنّ هذا الموقف، هو الذي يُشكّل ضمانة قيام المقاومة، وتَحوّلها لاحقاً إلى مقاومة مسلّحة ومتطوّرة. أمّا إذا لم يكن هذا الموقف الفكريّ والثقافيّ والنفسيّ موجوداً، بل كان المقابل هو القبول بالعدوان، والتساهل مع المُحتلّ، والخوف منه والخضوع لإملاءاته، فلا يبقى أيّ أرضيّة وأيّ معنى للمقاومة. وإنّنا في هذه الأيّام، نحتاج إلى موقف الشيخ راغب لِنواجه مؤامرة التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ.
ب- حفظ المقاومة: السيّد عبّاس كانت وصيّته دائماً حفظ المقاومة الإسلاميّة، وهذا بالنسبة إلينا يمثّل أولويّة مطلقة، وأولويّة حاكمة على سلوكنا، وعلى مواقفنا، وعلى تحالفاتنا، وعلى أدائنا، وعلى رضانا وغضبنا، وعلى هدوئنا وسخطنا. والناس يدركون هذا الأمر ويعونه جيّداً.
ج- تطوير بنية المقاومة: إنّنا مسؤولون أمام وصيّة الحاج عماد، الذي كان هَمّه وغَمّه بُنية المقاومة، وتطويرها كمّاً وكيفاً ونوعاً وعدداً وعدّةً وفكراً وتجربةً وروحاً وثقافةً وشجاعةً وعزماً. وهذه هي المسؤوليّة نفسها التي يتولّاها إخوانه، ويُواصلون طريقه من بعده. وهذه المقاومة تتطوّر بحمد الله، والعدو يُتابعها أكثر من الصديق؛ لأنّه يَعتبرها تهديداً له. وإخوة الحاج عماد مغنيّة ورفاقه وتلامذته، أَخذوا على عاتقهم هذه المسؤوليّة، وعَاهدوه يوم شهادته أن يُواصلوا هذا الطريق، وهو مستمرّ إن شاء الله، في كلّ الأبعاد، والمجالات، والساحات.
د- الوصيّة المشتركة: المقاومة والناس: نحفظ وصيّة سيّد شهدائنا السيّد عبّاس، عندما نرفع شعار خدمة الناس بأشفار العيون، ولذلك رفعنا شعار: "الوصيّة الأساس: المقاومة والناس"؛ فهذه وصيّة السيّد عبّاس، ووصيّة الشيخ راغب، ووصيّة الحاج عماد، الذين كانوا قريبين جدّاً من الناس، وكانوا في خدمتهم، ويبقون إلى جانبهم، هذه مسؤوليّة ووصيّة.
من هنا، فإنّ حزب الله يعمل بها بكلّ هذه التوجيهات، التزاماً بإيمانه، وعقيدته، ومنهجه الإيمانيّ والدينيّ والإسلاميّ والأخلاقيّ. ولذلك، نؤمن أنّ خدمة الناس، وخدمة عيال الله، من أعظم أوجه العبادة لله سبحانه وتعالى، ومن أعظم ما يقرّب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى.
* أعظم خدمة للناس
طبعاً، أن تؤمّن للإنسان طعاماً أو شراباً، هذا جانب من الخدمة. ولكنّ الخدمة الأهمّ والأعظم، أن تحافظ على وجوده، وأن تدافع عن بقائه، وعن دمائه، وعن عرضه، وأملاكه، وأمواله، وشرفه، وحريّته، وكرامته، والأرض التي يعيش فيها، وسيادة الوطن الذي يحميه ويعيش فيه، وأن تدافع عنه في مواجهة الفقر والفاقة، والظلم والجور والطغيان، هذه كلّها من أشكال خدمة خلق الله.
ثمّة من يرى الخدمة محصورةً في العمل الخدماتيّ الاجتماعيّ المباشر. هذا جانب من الخدمة، ولكن ثمّة جانب أعظم وأهمّ وأكبر، وهو عندما يتقدّم المجاهدون؛ ليدافعوا عن أرضنا، ومقدّساتنا، وأعراضنا، ونسائنا، وأولادنا، وأموالنا، وكرامتنا، وحريّتنا، وسيادتنا، ووطننا، هذه خدمة عيال الله وهؤلاء الناس.
نحن نحمل هذه الوصيّة إن شاء الله، وسنواصل العمل عليها في كلّ الميادين. فعندما يتهدّد شعبنا أو وطننا أو بلدنا، خطر صهيونيّ، أو خطر إرهابيّ، أو خطر تكفيريّ، لا نتوانى عن الدفاع عن هؤلاء الناس الشرفاء، وعن حمل همّ مسؤوليّتهم في كلّ موقع، وفي كلّ مكان نستطيع أن نكون إلى جانبهم فيه، وأن نخدمهم بأشفار العيون. فعلنا، وسنفعل دائماً إن شاء الله.
* تجديد العهد
في ذكرى شهدائنا القادة، نجدّد العهد لأرواحهم الطاهرة، ولكلّ القادة الآخرين الذين التحقوا بهم، مثل السيّد مصطفى بدر الدين، والشهيد الحاج حسّان اللقيس، وغيرهما. لكلّ الشهداء القادة، ولأرواحهم الطاهرة، نجدّد التزامنا ووعدنا بحفظ الوصيّة: "المقاومة والناس"، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(*) كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في الذكرى السنويّة للقادة الشهداء (رضوان الله عليهم)، بتاريخ 16-2-2021م.