اعلم، أنّ للاستعاذة أربعة أركان: المستعيذ، والمستعاذ به، والمستعاذ منه، والمستعاذ لأجله.
ولهذه الأركان تفصيلات كثيرة خارجة عن مجال هذه الأوراق، لكن لما لها من دخل وتكرار في القراءة حال الصلاة، نكتفي بذكر مختصر منها:
الركن الأوّل: المستعيذ
وهو الحقيقة الإنسانيّة، من أوّل منزل السلوك إلى الله إلى منتهى النهاية للفناء الذاتيّ. وإذا تمّ الفناء المطلق هلك الشيطان وتمّت الاستعاذة. وتفصيل ذلك: ما دام الإنسان مقيماً في بيت النفس والطبيعة، ولم يشتغل بالسفر الروحانيّ والسلوك إلى الله، فهو تحت السلطنة الشيطانيّة بجميع شؤونها ومراتبها، ولم يتلبّس بحقيقة الاستعاذة. ولقلقة لسانه بالاستعاذة تكون بلا فائدة، بل هي تثبيت وتحكيم للسلطنة الشيطانيّة، إلّا بالتفضّل والعناية الإلهيّة.
أمّا إذا تلبّس بالسير والسلوك إلى الله، وشرع في السفر الروحانيّ، فكلّ ما كان مانعاً له (للإنسان) من هذا السفر، وكان شوكاً في طريقه، فهو شيطانه، سواء أكان من القوى الروحانيّة الشيطانيّة، أم من الجنّ والإنس؛ لأنّ الجنّ والإنس إذا كانا من شوك الطريق، ومانعي السلوك إلى الله، فإنّهما من أعوان الشيطان وتصرّفه، كما أشار إليه سبحانه وتعالى في سورة الناس المباركة، حيث يقول: ﴿مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ*مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ (الناس: 4-6)؛ فالشيطان وإن كان جنّاً، لكن يُستفاد من الآية الشريفة أنّ الوسواس الخنّاس؛ أي الشيطان، قد يكون جنّاً أو إنساً، أحدهما بالأصالة والآخر بالتبعيّة. فيُعلم من الآية الشريفة أنّ هذَين النوعَين؛ يعني الجنّ والإنس، أيضاً هما من التمثّلات الشيطانيّة، ومن مظاهر الشيطان. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في آية أخرى، حيث يقول: ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾ (الأنعام: 112).
1- سوى الحقّ
إنّ الإنسان قبل شروعه في السلوك إلى الله ليس مستعيذاً، وبعد نهاية السير أيضاً، وعدم بقاء شيءٍ من آثار العبوديّة، ونيل الفناء الذاتيّ المطلق، فلا يبقى أثرٌ من الاستعاذة والمستعاذ منه والمستعيذ، ولا يكون في قلب العارف شيءٌ سوى الحقّ والسلطنة الإلهيّة.
أمّا مقام "وأعوذ بك منك"(1)، فهو إذا أتاه الصحو والأنس والرجوع، بعد ذلك الفناء، تكون الاستعاذة حقيقة أيضاً، ولكن لا كاستعاذة السالك؛ ولهذا أُمر الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بالاستعاذة، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ (الفلق: 1)، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ (الناس: 1)، و﴿أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ*وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ (المؤمنون: 97-98).
2- الاستعاذة مقامان
يكون الإنسان مستعيذاً في مقامين: أحدهما حال السلوك إلى الله، وهو يستعيذ من أشواك الوصول التي قعدت على الصراط المستقيم للإنسانيّة، كما حكى سبحانه قول الشيطان: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف: 16)، والآخر في حال الصحو والرجوع من الفناء المطلق، فهو إذاً يستعيذ من الاحتجابات وغيرها.
الركن الثاني: المستعاذ به
اعلم، أنّ حقيقة الاستعاذة حيث إنّها متحقّقة في السالك إلى الله، ومتحصّلة في السير والسلوك إلى الحقّ، تختصّ بالسالك في مراتب السلوك، فتختلف الاستعاذة والمستعيذ والمستعاذ منه والمستعاذ به بحسب مقامات السائرين، ومدارج ومنازل السالكين، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ﴾ (الناس: 1-2)، فيستعيذ السالك بمقام الربوبيّة من مبادئ السلوك إلى حدود مقام القلب، ويمكن أن تكون هذه الربوبيّة، الربوبيّة الفعليّة، في تطابق "أعوذ بكلمات الله التامّات"(2). فإذا انتهى سير السالك إلى مقام القلب، يظهر في القلب مقام السلطنة الإلهيّة، فيستعيذ في هذا المقام بمقام "ملك الناس" من شرّ تصرّفات إبليس القلبيّة وسلطنته الباطنيّة الجائرة، كما يستعيذ في المقام الأوّل من شرّ تصرّفاته الصدريّة، ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ (الناس: 5)، مع أنّ الوسوسة في القلوب والأرواح أيضاً من الخنّاس؛ لأنّ الأنسب في مقام التعريف أن يكون التعريف بالشأن العموميّ والصفة الظاهرة عند الكلّ.
فإذا تجاوز السالك مقام القلب أيضاً إلى مقام الروح، الذي هو من النفخة الإلهيّة، واتّصاله بالحقّ أشدّ من اتّصال شعاع الشمس بالشمس، فيشرع في هذا المقام مبادئ الحيرة والهيمان والجذبة والعشق والشوق، فيستعيذ في هذا المقام بإله الناس. فإذا ترقّى من هذا المقام، وكانت الذات بلا مرآة الشؤون نصب عينَيه، وبعبارة أخرى: إذا وصل إلى مقام السرّ، فالمناسب له "أعوذ بك منك".
تتمّة الأركان في العدد المقبل، إن شاء الله.
(*) مستفاد من كتاب: الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني قدس سره، المصباح الثاني، الفصل الثالث.
(1) مصباح المتهجّد، الطوسيّ، ص 46.
(2) إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 61، ص 226.