الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
إنّ الاعتقاد بأنّ الإيمان بالله والدين فطرة، حقيقة نادى بها الإسلام وأثبتها العلم، وهو ما تناولناه بالشرح والتفصيل في العدد السابق. وفي هذا المقال، استكمال لهذا الموضوع وما يرتبط به من قضايا مختلفة.
* ما معنى "الله أكبر"؟
هل الله أكبر من كلّ شيء؟ لا، الله أكبر من أن يوصف، وإلّا فهو لا يقاس بالشيء، ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ (الحديد: 3)، له الأسماء الحسنى والمثل العليا، الله كبير جدّاً، ولا أكبر منه، بل أكبر من أن يوصف، هذا من ناحية. ثمّ من ناحية أخرى حتّى لا نشعر أنّ الله الكبير لهذه الدرجة بعيد عنّا، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة: 186).
فإذاً، الله الكبير والأكبر من أيّ وصف، هو معنا، وفي قلوبنا، وأقرب إلينا من حبل الوريد. إذا خاطبناه يسمع في أيّة ساعة، وفي أيّ مكان وفي أيّة حالة. قلِ الله وكفى، يقل لك: لبّيك عبدي، إنّي قريب منك. يقول الإمام عليّ عليه السلام: "والله، ما رأيتُ شيئاً إلّا رأيتُ الله قبله"(1). طبعاً، ليست الرؤية بالعين؛ لأنّ القرآن يقول: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام: 103).
* الله يملأ جوانب الوجود
يحاول الإسلام أن يملأ جوانب وجود الإنسان بالله، فيقول: إذا حاربتَ في سبيل قضيّتك ورسالتك ودينك، فقد جاهدتَ في سبيل الله، إذا أنفقتَ على فقير، فقد أنفقتَ في سبيل الله، إذا عُدتَ مريضاً، فقد عدتَ الله، إذا خدمت أخاك المؤمن، فقد جاهدتَ في سبيل الله؛ فالساعي في حاجة أخيه المؤمن، كالمتشحّط بدمه في سبيل الله. إذاً، كلّ فعل يصدر عنك إذا كان لوجه الله، فهو يوصلك إلى الله مباشرة.
مضافاً إلى ذلك، إنّ ما يحيط بالإنسان من الأفعال، يدخل في ما يحيط به من الكائنات والكون. انظر إلى الكون، فترى أنّ فيه نظاماً ودقّة وحركة وتنسيقاً ووحدة، تجد أنّ الكون بأجمعه متفاعل؛ فالبحر يموج ويتحرّك بفعل النسيم، والنسيم يحصل من الحرارة، والحرارة تنبعث من نور الشمس، والشمس الحارّة محور حركة الأرض، ومحوريّتها نتيجة التجاذب الكونيّ الموجود بين الكواكب كلّها. فإذاً، موجة البحر متّصلة بجميع الكائنات.
كما أنّ النسبة بين الحرارة والرطوبة، ونموّ الأشجار، وإشراقة الشمس، والأمطار، وطول الإنسان ولونه ولون شعره، كلّ شيء في الكون منسجم ومتجاوب، حتّى كأنّ الكون كلّه شيء واحد.
* كيف تفسّر الكون؟
قد تقول: إنّ الكون مصنع كبير؛ كلّ جزء من أجزائه يقوم بعمل معيّن، وقد تقول: إنّ الكون كلّه مسرحيّة؛ كلّ جزءٌ منه يلعب دوره، وقد تقول: إنّ الكون كلّه لوحة فنّيّة؛ كلّ جزء منه يشكّل لوناً، لكنّ القرآن يقول إنّ الكون كلّه محرابٌ كبير للسجود لله ولتسبيحه وللصلاة له تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ (الحج: 18)، ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (الجمعة: 1)، ويقول: ﴿وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ (النور: 41).
فإذاً، الطير والبحر والشجر بين مسبّحٍ ومصلٍّ، وبهذا المنظار بإمكانك أن ترى أنّ ما حولك من الكون كلّه عباد الله، راهبون، ساجدون، خاشعون، مسبّحون، مصلّون. فإذاً، الله في تفسيرنا هو الكبير الكبير الكبير، والقريب القريب القريب، الذي يملأ وجودنا وما حولنا وكوننا.
* نزداد به قوّة وأملاً
إنّ مفهوم الله في الأديان وفي الإسلام، مفهومٌ عظيم. وهدف كلّ شريعةٍ هو معرفة الله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البيّنة: 5)، ولا يمكن معرفته عن غير طريق الشريعة. وكلّما ازدادت معرفتنا بالله، ازداد سموّنا وتقرّبنا إليه تعالى. فإذاً، معرفة الله تشكّل عنصراً أساسيّاً في حياة الإنسان: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56). لماذا الاهتمام بالله؟ لأنّ شعورنا أنّ الله العظيم الذي ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر: 67)، هو فوق كلّ شيء، وهو خالق كلّ شيء. وحينما نشعر أنّ الله معنا، تزداد قوّتنا؛ لأنّنا متّصلون بأقوى القوى وبأقدر القادرين، يزداد أملنا فلا نيأس، يزداد تهيّؤنا فلا نتكاسل، يزداد إيماننا فلا نخاف ولا نتردّد ولا نشكّ، فالمعرفة بالله أساس كلّ كمال للإنسان.
* الأوّل والآخر
الله يملأ وجودنا وكوننا وأفعالنا، هذا هو معنى اللَّه. فليس مفهوم الله مفهوماً تجريديّاً، ولا مفهوماً ماديّاً كما يحاول بعضهم أن يتّهم به الإسلام، بل فيه من التجريديّة والقرب ما يصفه أمير المؤمنين عليه السلام: "داخلٌ في الأشياء لا بالممازجة، وخارجٌ عن الأشياء لا بالمزايلة"(2)، ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ (الحديد: 3)، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ (يونس: 61).
* تأثير ﴿بِسْمِ اللهِ﴾
﴿بِسْمِ اللهِ﴾؛ تعني أنّنا نُقدم على عمل، أو نسعى في طريق، أو نمشي في مهمّة، بالتوكّل على هذا الموجود العظيم، فنرى تأثير ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ في حياتنا إلى أيّ حدّ من العظمة. حينما نبدأ نهارنا وليلنا وسعينا وسفرنا وجهادنا بـ﴿بِسْمِ اللهِ﴾، فلا شكّ في أنّنا ننجح، وحينما نبدأ عملنا دون اسم الله، دون ذكره، دون استحضاره، فلا شكّ في أنّ عملنا سيكون أبتر.
* الرحمة أمل بالنجاح
الرحمة في ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ بمعنيَين: الرحمانيّة والرحيميّة، وهذا تعميق وتوسعة في مفهوم الرحمة. لا نريد أن نبحث في ما قيل في معنى الرحمن ومعنى الرحيم، إلّا أنّ الرحمن شمول الرحمة، والرحيم عمق الرحمة. ومهما كان، فجانب الرحمانيّة والرحيميّة في الله هو الجانب الذي يملأ وجود الإنسان أملاً بالنجاح، ولهذا نحن في بدء كلّ عمل، وعند الشروع في كلّ مَهمّة، بحاجة إلى جانب الرحمانيّة من الله حتّى نطمئنّ بالرعاية، وبالوصاية، وبالمراقبة، وبالمساعدة، وبالتأييد، وبالنجاح، ولهذا نبدأ عملنا بـ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر، ج 10، ص 231 – ص237، بتصرّف.
(1) شرح أصول الكافي، المازندراني، ج 3، ص83.
(2) نسبت إلى أمير المؤمنين عليه السلام في عدد من المصنّفات، وهي مأخوذة من كلامه عليه السلام: "داخلٌ في الأشياء لا كشيء داخل في شيء، وخارج من الأشياء لا كشيء خارج من شيء". الكافي، الكليني، ج 1، ص 86.