بعد أن تحدّثنا في العدد السابق عن حقيقة الاستعاذة من الشيطان الرجيم، مضافاً إلى الإخلاص كإحدى مهمّات آداب الاستعاذة، سنعرّج في هذا المقال على علامات الإخلاص الحقيقيّ، ونتابع آداب الاستعاذة.
•من أدب المخلصين
إنّ مقام الخلوص الذاتيّ من أعزّ مقامات الأولياء وأخصّ مدارج الأصفياء، وليس لسائر الناس منه حظّ، بل لعلّ القلوب القاسية للجاحدين والنفوس الصلبة للمجادلين، البعيدة عن هذه المرحلة بمراحل، تُنكر هذه المقامات، ويحسبون الكلام في أطرافها باطلاً، بل ينسبون -والعياذ بالله- هذه الأمور التي هي قرّة عين الأولياء، والكتاب والسنّة مشحونة بها، إلى اختراعات الصوفيّة وأراجيف [أخبار مختلقة سيّئة] الحشويّة [طائفة تمسّكوا بالظواهر وذهبوا إلى التجسيم وغيره].
ونحن أيضاً، إن تذكّرنا هذه المقامات التي هي في الحقيقة مقام الكُمّل، فليس من جهة أنّ لنا فيها حظّاً، أو أنّنا نمدّ إليها عين الطمع، بل من جهة أنّنا لا نُجوِّز إنكار المقامات، ونرى ذكر الأولياء ومقاماتهم دخيلاً في تصفية القلوب وتخليصها وتعميرها؛ لأنّ ذكر الخير بالنسبة إلى أصحاب الولاية والمعرفة يوجب المحبّة والتواصل والتناسب. وهذا التناسب يوجب التجاذب، وهذا يسبّب التشافع، الذي ظاهره الإخراج من ظلمات الجهل إلى أنوار الهداية والعلم، وباطنه الظهور بالشفاعة في عالم الآخرة؛ لأنّ شفاعة الشافعين لا تكون من دون تناسب وتجاذب باطنيّ، ولا تكون عن جزاف وباطل.
•آداب الاستعاذة
إنّ حقيقة الاستعاذة هي عبارة عن حالة وكيفيّة نفسانيّة تحصل من العلم الكامل البرهانيّ بمقام التوحيد الحقّ الفعليّ والإيمان به. وعلى المؤمن أن يكتب بقلم العقل على لوحة القلب حقيقة "لا إله إلّا الله"، و"لا مؤثّر في الوجود إلّا الله"، فإذا آمن القلب بهذه اللطيفة الإيمانيّة والحقيقة البرهانيّة، تحصل لديه حالة انقطاع والتجاء. ومن آدابها:
1- التوجّه التامّ نحو التوحيد: من مهمّات السلوك وأركان العروج، التوجّه التامّ إلى التوحيد الحقّ الفعليّ، وتذكير القلب بهذه اللطيفة الإلهيّة والمائدة السماويّة، وإذاقة القلب حقيقة مالكيّة الحقّ تعالى للسموات والأرض والباطن والظاهر والملك والملكوت؛ حتّى يرتاض القلب بالتوحيد في الألوهيّة، ونفي الشريك في التصرّف، ويخمَّر القلب بالتخمير الإلهيّ، ويربّى بتربية التوحيديّ، فلا يرى القلب ولا يعلم في هذه الحالة مفزعاً ولا ملجأً ولا ملاذاً ولا معيناً سوى الحقّ، ويستعيذ بالحقّ ومقام الألوهيّة بالطَوع والحقيقة، وما لم يُقطع القلب عن تصرّف سائر الخلق، ولم يُغمض عين الطمع عن الموجودات، لا يلوذ بالله على الحقيقة، وتكون دعواه كاذبة، وينسلك بحسب مسلك أهل المعرفة في زمرة المنافقين، ويُنسب إلى الخدعة والتغرير.
2- الإيمان القلبيّ: من الآداب والشرائط للاستعاذة التي أُشير إليها في الآية الشريفة: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ*إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ (النحل: 98-100) الإيمان، وهو غير العلم، حتّى العلم الذي حصل بالبرهان الحكميّ. فإنّ الشيطان، مع أنّ له العلم بالمبدأ والمعاد بنصّ القرآن، محسوبٌ في زمرة الكفّار، فلو كان الإيمان عبارةً عن هذا العلم البرهانيّ، يلزم أن يكون الواجدون لهذا العلم بعيدين عن تصرّف الشيطان، وأن يتلألأ فيهم نور هداية القرآن، مع أنّنا نرى أنّ هذه الآثار لا تحصل بالإيمان البرهانيّ.
فإن أردنا أن نخرج من تصرّف الشيطان ونقع تحت عوذة الحقّ، لا بدّ أن نوصل الحقائق الإيمانيّة إلى القلب بالارتياض القلبيّ الشديد ودوام التوجّه أو كثرته وشدّة المراودة والخلوة، فإذا صار القلب إلهيّاً، خلا من تصرّف الشيطان، كما قال الله تعالى: ﴿اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾ (البقرة: 257).
فالمؤمنون الذين يتولّى الحقّ تعالى ظاهرهم وباطنهم وسرّهم وعلانيّتهم، خالصون من تصرّفات الشيطان وداخلون في سلطان الرحمن، ويخرجهم من جميع مراتب الظلمات إلى النور المطلق، فينتقلون من ظلمة المعصية والطغيان، ومن ظلمة كدورات الأخلاق الرذيلة، وظلمة الجهل والكفر والشرك، ورؤية النفس وحبّ النفس والعُجب، إلى نور الطاعة والعبادة، وأنوار الأخلاق الفاضلة، ونور العلم وكمال الإيمان والتوحيد، ورؤية الله وطلبه وحبّه.
3- التوكّل: كما إنّ من آداب الاستعاذة التوكّل، وهو أيضاً من شعب الإيمان ومن الأنوار الحقيقيّة للّطيفة الإيمانيّة، وهو تفويض الأمور إلى الحقّ الذي يحصل من إيمان القلب بالتوحيد الفعليّ، وتفصيله خارج عن نطاق هذه الأوراق.
فإذا لم يرَ العبد السالك مفزعاً وملاذاً غير الحقّ تعالى، وعلم أنّ التصرّف في الأمور منحصرٌ في الذات المقدّسة، تحصل في القلب حالة الانقطاع والتوكّل، وتصير استعاذته حقيقيّة، فإذا لجأ بالحقيقة إلى حصن الربوبيّة والألوهيّة الحصين، أخذه [الله] -لا محالة- في كنف ظلّه ورحمته الكريمة، إنّه ذو فضل عظيم.
(*) من كتاب الآداب المعنويّة للصلاة، المصباح الثاني – الفصل الثاني – بتصرّف.