1- دور العقل في استمرار النظام
اتضح من خلال الأبحاث السابقة أن المسؤوليات في النظام الإسلامي أمانة إلهية يؤدي حفظها إلى استمرار النظام وبقائه، وأن التقصير بحقها أو الغفلة من صيانتها تؤدي إلى تزلزل ذلك النظام.
وما نريد أن نتحدث عنه الآن هو أن استقرار النظام مرهون بعقل مسؤوليه. فالعاملون في أي نظام حكومي إذا كانوا عقلاء، فإنهم يضمنون استمراره، وبالعكس إذا لم تكن هذه العقلانية موجودة فيهم، فإن النظام سرعان ما يتهاوى وتنفصم عراه.
فالمناصب إذا نظّمت على أساس دائرة المسؤوليات، والبرامج والقوانين إذا لم تهمل شيئاً، وكذلك إذا لم يقصّر في اختيار العاملين والمسؤولين عن إجراء وتنفيذ هذه البرامج وإدارة تلك المناصب، وبتعبير آخر، إذا كان التخطيط عاقلاً، وتنفيذه بيد العقلاء، فإن النظام سوف تكتب له الاستمرارية والدوام. ولكن، إذا لم يكن التخطيط عاقلاً بمعنى أن بعض الوظائف اللازمة قد حذفت، والبعض الزائد قد وضع، وما هو مفيد قد ألغي، وما هو ضار قد أضيف ثم جعلت الأمور (حتى ولو كانت عاقلة) بيد من ليسوا من العقلاء والواعين، فإن هذا النظام لن تكتب له النجاة وسرعان ما تتزلزل أركانه وتنهد أعمدته "بالعدل قامت السماوات والأرض"1.
وعندما سئل أمير المؤمنين عليه السلام أن يصف العاقل قال: "هو الذي يضع الشي مواضعه" فقيل: صف لنا الجاهل: فقال عليه السلام: قد فعلت"2. وهذا المعنى يبين بوضوح أهمية العقل في تدوين وإعداد البرامج والخطط وفي تنفيذها وإجرائها.
إن أهم فضيلة للعاملين في النظام الإسلامي هي العقل العملي، وأسوأ صفة لهم هي التحجر الفكري والجهل العملي التي تؤدي إلى زوال النظام واندثاره. فالعامل الجاهل إما أنه يخطأ عند إعداد الخطط والبرامج، وإما أنه ينجر إلى الإفراط أو التفريط، فيحرف العمل عن مساره الأصلي ويجعل الباطل حقاً والحق باطلاً. فإذا وجد الباطل طريه إلى النظام وتسلل إلى القانون، فإنه يؤدي إلى تداعي النظام وزواله.
وقد نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها"3. لأن صاحب الحجر له الحق بإخراجه من البناء حتى لو أدى ذلك إلى خراب البناء، فالبناء يصبح محترماً عندما يبنى من الحلال، ويكون بدون حرمة عندما يبنى من الحرام.
وبالإضافة إلى هذا الحكم الفقهي، يستفاد من هذا الكلام البليغ مطلب أخلاقي واجتماعي، وقد التفت إليه ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة، وهو أن كل قصر يبنى على الظلم، وكل بناء يشاد على التعدي ويؤسس على الغصب والسرقة لا محالة ساقط ومنهدم. لأن الغصب رهن على الخراب. ولأنه رهن فلا بد أن يفك، والرهن لا يتناسب ولا يصح مع الدوام، فلا بد إذاً من حصول الخراب والدمار. فإذا ابتلي النظام بقانون خاطئ وبرنامج مغلوط أو بعامل جاهل وغير عاقل، فإنه يكون كالبناء الذي أشيد على الحجارة المغصوبة، ولن يتركه إلا بعد أن يفسده من الداخل ويدمره.
يضيف ابن أبي الحديد قصة "أبو علي ابن مقلة" الذي كان يبني بيته في بغداد على غصب الرعية وظلمهم، فقال له ابن بسام:
ودارك ثالثة تهدم |
بجنبك داران مهدومتان |
ويقصد بالدارين دار أبي الحسن ابن فرات، ودار محمد بن داوود بن الجراح. وما قاله ابن بسام بفراسته صح، فلم تمض فترة حتى أصبحت داره خربة منهدمة في زمن خلافة الرضي بالله.
المقصود أن نلتفت إلى أهمية وظيفة العاملين في النظام الإسلامي، فإذا لم يراع مسألة العقل في البرامج والتنفيذ، فإن النظام لن يدوم. ولأن العقل عامل ثبات النظام وبواسطته يطوي الإنسان طريق الجنة، ويحصل على عبادة الله سبحانه: "العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان"4، فإن العامل العاقل لا يمكن أن يتعدّى حدود العقل والأمانة، ولايضع قدماً في وادي الجهل والجهالة والظلامة والخيانة، ولا يلوث نفسه بالرشوة تحت عنوان الهداية! وكل ما يعطى له من مال ينظر فيه إذا كان رشوة تحت غطاء الهدية وأمثالها أم لا. وهل أنه أعطي ذلك بسبب منصبه أم لا. فإذا تقاعد من عمله أو ترك هل كان ليحصل عليها أم لا.
ينبغي التدقيق جيداً عند التمييز بين الرشوة والهدية الحقيقية لئلا يحرف حب النفس والتعلق بالمال صاحبهما عن الحقيقة. ولكي يتضح لزوم هذا التمييز والحذر من قبول كل شيء تحت عنوان الهدية، يلزم أن نسمع قليلاً مما ورد حول أخطار المال الحرام وعاقبته الوخيمة، من القرآن الكريم والمعصومين عليهم السلام.
جاء التعبير في القرآن الكريم عن الرشوة بكلمة "السحت": ﴿وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السُّحت﴾ (المائدة، 62).
والسحت عبارة عن القشر المنتزع من لبه. وبما أن المال الحرام والرشوة تخرجان الإنسان عن دينه ومروءته، لهذا جاء التعبير عنها بالسحت، وبما أن العذاب الإلهي شديد الألم وغصة بحيث يجعل الإنسان مستأصلاً وبدون أصل، قال الله تعالى: ﴿فيسحتكم بعذاب﴾ (طه، 61).
ومن كلام لأمير المؤمنين عليه السلام حين أجاب سائلاً سأله عن الفتنة قال: "فيستحلّون الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع" (نهج البلاغة، الخطبة 155).
وعلى العاملين أن يعلموا أن الأموال الحرام إذا وجدت طريقها إلى مراكزهم وإداراتهم، فإنها تعري النظام وتسحته، فتجعله في معرض كل أنواع الأضرار والآفات. وهناك سرعان ما يزول النظام، لأن كفران النعمة وصرفها بدون مورد الذي هو عين الجهل والظلم- يؤديان إلى خنق طيور النعمة الغرّاء وفرارها. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هدا المجال: "احذروا نفار النعم، فما كل شارد بمردود" (نهج البلاغة، ح 438).
فإن المعاصي تزيل النعم |
إذا كنت في نعمة فارعها |
وحيث أن نظام الجمهورية الإسلامية من أعظم النعم الإلهية، فإن الحق يكون فيه عزيزاً، والباطل ذليلاً، فإذا لم يؤد العاملون فيه حق هذه النعمة بجهالتهم، ولم يتصرفوا بحكمة وعقل في التخطيط والتنفيذ، من الممكن أن يرتفع هذا الفيض الإلهي العظيم عن هدا البلد، ويهجر هذه الديار لنعود من جديد تحت حراب الأنظمة الطاغوتية الفاسدة.
ولأن العامل العاقل يسعى جاداً لتثبيت أركان النظام الإسلامي بالطريق الصحيح، حتى يتمكن من خدمة عباد الله سبحانه، يلزم أن يلتف جيداً إلى كلام أمير المؤمنين عليه السلام، فعندما اقترحوا عليه أن يبذل بعض العطايا لجذب قلوب البعض وتقريبهم قال عليه السلام: "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور" (نهج البلاغة، خ 126).
كلا، فالباطل لا يمكنه أبداً أن يكون ناصراً للحق، كذلك فإن الحق لا يحتاج إلى نصرة الباطل إطلاقاً
﴿وما كنت متخذ المضلين عضداً﴾ (الكهف، 51).
ثم قال عليه السلام: "... إن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله، ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم وكان لغيره ودّهم فإن زلّت به النّعل يوماً فاحتاج إلى معونتهم فشرّخ خدين والأم خليل".
فاعتبروا أيها العاملون، والتفتوا إلى هذا الكلام الحكيم، والنصيحة العاقلة من سيد العقلاء وقدوتهم ولا تجعلوا من الباطل جسراً إلى المقصد، ولا تقعوا وأنتم لا تدروه في حيلة الباطل فتجعلوا جسراً إلى المقصد، ولا تقعوا وأنتم لا تدرون في حيلة الباطل فتجعلوا "الغاية تبرر الوسيلة". لأن الحق لا يُنال بالباطل. والهدف الحق لن يكون إلا بوسيلة الحق. فاسعوا إلى لقاء الله سبحانه بيد طاهرة من حقوق المسلمين، ولسان منزه عن هتك حرماتهم. وينقل أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه. فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم سليم اللسان من أعراضهم فليفعل" (نهج البلاغة، خ175).
وهذه هي عصارة العقل والسنة الحسنة التي يجب على المؤمن أن يتحرك على أساسها.
وفي الختام نذكر مسألة مفيدة من أعظم العقلاء الدهر الذي هو كما عبر ابن سينا- في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالمعقول بين المحسوس، علي بن أبي طالب عليه السلام حيث يقول أن منشى جميع المفاسد هو الحرص وطول الأمل وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة يقول عليه السلام: "فسابقوا رحمكم الله إلى منازلكم التي أمرتم أن تعمروها والتي رغبتم فيها ودعيتم إليها.. فإن غداً من اليوم قريب، وما أسرع الساعات في اليوم وأسرع الأيام في الشهر وأسرع الشهر في السنة وأسرع السنين في العمر" (نهج البلاغة ، خ 230).
"فكانت كيوم مضى أو شهر انقضى" (نعج البلاغة، خ 232).
2- ضرورة مراعاة النظام
علمنا من البحث السابق أن أهم عامل لاستمرار النظام هو العقل والتدبير الذي ينبغي أن يتحلي به العاملون والمسؤولون، لأن مقتضى العقل هو إيكال الأمور وإيداعها أهلها من المتخصصين المتلزمين بحيث يكون كل شيء ي مكانه المناسب، فلا استعجال ولا بطء ولا تأخر.
وما نريد أن نتحدث عنه الآن هو موضوع النظام فيما يتعلق بالعاملين والمسؤولين، حيث أن رعايته والتقيد به تعد من آثار العقل والتعقل فثبات النظام (الحكم) بدون تنظيم وانتظام العاملين والمسؤولين لا يمكن أن يتحقق. وهنا يوجد مجموعة من التعاليم العامة والخاصة التي ترتبط بالمسؤولين وقد بينها الإسلام.
فمن جملة الأحكام العامة ضرورة رعاية النظام والانضباط واحترام البرنامج الصحيح. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في وصيته المشهورة: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم"5.
فهو عليه السلام يدعو من موقع قيادته لعالم الإسلام الجميع إلى تنظيم أعمالهم وشؤونهم، ليقوم كل واحد بدوره ولا يتدخل بعمل الآخرين. وهذه الوصية، وإن كانت مفيدة لكل فرد، لكنها ضرورية للعاملين في الحكومة. وعلى أساسها ينبغي أن يتم توزيع الأعمال والمهام بطريقة لا تبقى لأحد عذر التهاون، ولا يتدخل في شؤون غيره، ولا يتطلع إلى مقام آخر، ولا يتوانى عن معرفة حدود مسؤوليته، ولا يتوقع من الآخرين إنجاز عمله.
كذلك، ينبغي اجتناب الدخول في أي عمل، على أساس النظام، قبل وقته المناسب، ولا يتأخر عند تحين فرصته، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال: "ومجتنى الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه" 6.
فالاستعجال والفوضى كمن يزرع في غير أرضه، مما يعني بذل الجهد بدون نتيجة.
فهذا الحديث الحكيم نموذج للتعاليم العامة فيما يتعلق برعاية النظام.
أما ما ورد بشكل خاص حول حفظ النظام ورعاية البرنامج الصحيح، فمنه الرسالة التي كتبها أمير المؤمنين عليه السلام لتلميذه كميل بن زياد النخعي حيث قال فيها: "إن تضييع المرء ما وُلَّى وتكلُّفه لعجزٌ حاضر ورأيٌ متبَّرٌ"7 وهذا المعنى نجده بشكل واضح وقاطع فيما يتعلق بأمور جيش الإسلام وقواته العسكرية، حيث أن حفظ النظام فيها ضرورة لا يمكن التغاضي عنها أبداً. ومن كتاب له عليه السلام لاثنين من قادة جيشه قال: "وقد أمرَّت عليكما وعلى من في حيزكما مالك ابن الحارث الأشتر فاسمعا له وأطيعاه واجعلاه درعاً ومجناً، فإنه ممن لا يخاف وهنُه ولا سقطته ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل"8.
فوظيفة المسؤول العسكري معرف المواقف والمواضيع والتعرف التام على القوانين العسكرية وغيرها، والعمل الصحيح مقابلها. وعلى العاملن تحت يده أن يطيعوه إطاعة تامة، ولا يتعدوا حدود النظام الصحيح.
وكذلك ما نشاهده في كلامه فيما يتعلق برعاية النظام وحفظه ما جاء في عهده لمالك الأشتر: "وامضِ لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية"9.
فأفضل الأوقات تلك التي تكون بين الإنسان وخالقه عز وجل والتي تثبت هذه العلاقة. وإن كانت الأعمال والبرامج، مع خلوص النية وسلامة الأمة الإسلامية، لله. وعلى المسؤول أن ينظم أوقات المحاسبة والعبادة والمناجاة والدعاء بحيث يجعل لها أفضل المواقيت وأثمن الفرص. فعلي بن أبي طالب عليه السلام يأمر المسؤولين ضمن تنظيم أعمالهم الإدارية بتنظيم عباداتهم أيضاً. وحول أهمية التنظيم الإداري وضرورة المحافظة عليه من قبل العاملين الذين يتلقون المراجعات والمطالب من الناس فيعدونهم باليوم والغد وبعد غد، فيؤدي ذلك سوء الظن بالحكومة والسخط على المسؤولين، ويكفي الاستماع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: "ويل لتجار أمتي من لا والله وبلى والله، وويل لصناع أمتي من اليوم وغداً".
إن هذا الوعيد والتوبيخ ليس مقتصراً على مسؤولي الخدمات الحرة، إنما يشمل كل عامل يتعهد أمور الناس. وعلى هؤلاء أن يراعوا التنظيم في أعمالهم وأن لا يعدوا الناس جزافاً، ولا يتعدوا ذلك عند حلوله. وكما أن المسلم الملتزم ينبغي أن يحفظ أموال الناس من الضياع والتلف، كذلك يجب عليه أن يحفظ أوقاتهم من التضييع، فهو أمين عى الأموال، وأمين على الأوقات، ويمكن الاستفادة من أمير المؤمنين عليه السلام حين قال: "إن الله تبارك وتعالى يحب المحترف الأمين"10، أن الأمانة لا تقتصر لعى المال، بل تشمل كل أنواع الحقوق، وتهتم بجميع الشؤون بما يشمل الدماء والأموال والأعراض والأوقات.
فيجب على كل عامل، سواء كان عاملاً أو مسؤولاً أو إدارياً أن يقدر أوقات الآخرين ويحترمها. ولا يحصل هذا إلا بتنظيم البرامج العملية وتوزيع ساعات أداء الوظائف الفردية والاجتماعية. والنقطة التي ينبغي الالتفات إليها في بحثنا هذا حول النظام هي أن رعاية النطام وتعيين الرئيس وما فوقه بيست سبباً للامتياز والعلو. بل أن النظام يهدف إلى تحسين الوصول إلى الهدف وتقليل العوائق والموانع. فإذا كان قانون التنظيم يوجب تعيين أفرادها ف يعمل معين، وغيرهم ممن لديهم اطلاع على عمل آخر فيه، فليس هذا بسبب العلو والتفاضل، ففي الإسلام العامل الوحيد للتمايز والتفاضل هو الصلاح والنزاهة وعدم التعالي والتكبر. فالإسلام يعتبر أن الأفضل هو الذي لا يعتبر نفسه أفضل (رغم كماله)، ولا يطلب العلو والرفعة لنفسه. أما الذي يبحث عن الرئاسة ويحدث نفسه بها فهو أسير النفس الأمارة، ولن يحصل على الفضيلة أبداً. فعلى الجميع أن يكرموا الصالحين، وفي تحصيلهم للتعاليم الأخلاقية، أن يعتبرونهم أسوة وقدوة، وبروا في سيرتهم المفيدة طريقاً إلهياً مستقيماً عليهم أن يقصدوه. ولكن هذا المعنى مغاير لتنظيم العمل على طريقة توزيع المسؤوليات والمهام والصلاحيات.
وملخص الكلام، أن التنظيم عبارة عن توزيع الأعمال وترتيب الأمور وهو لا يعني إعطاء الامتيازات والتفضيل بين الأشخاص، ولهذا نجد أن أمير المؤمنين عليه السلام في نفس الوقت الذي يبين لمالك الأشتر كيفية تنظيم طبقات الناس وتعيين الوظائف المناسبة لهم وتحقيق الانسجام والتعاون فيما بينهم، يعلمه أنه لا ينبغي أبداً المساواة بين الحسن والقبيح، فإن كل مسيء مهما كان (ومن أية طبقة) ذليل ووضيع، والمحسن شريف وفاضل: "ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، والزم كل منهم ما ألزم نفسه"11.
فإذا لم يكرم المحسن، فإن غيره لن يرغب في الإحسان والتقوى، وفي المقابل أيضاً إذا لم يعاقب المسيء، فإن غيره سوف يتجرأ على الإساءة. وهكذا فإن منصب أي عامل ليس سبب علوه، ومهمته ليست سبباً لمباهاته وتفاخره، لأن هذه المناصب ليست جزءاً من حقائق عالم التكوين، بل هي من الأمور الاعتبارية والوضعية جعلت على أساس تنظيم شؤون المجتمع. فعلى كل مسؤول أن يلتفت دائماً إلى هذه المسألة الأخلاقية، ولا يغفل في لحظات المحاسبة عن التمييز بين التنظيم والتفضيل، والانتظام والامتياز.
فتنظيم الأمور من أهمل عوامل بقاء النظم والجهاز الحكومي، وهو م يحصل إذا تم التمييز بين المهام والمقامات، وأعطي كل فرد خبير وأمين موقعه المناسب فيما يرتبط بعمله وتخصصه.
وعندما يكون الشخص مسؤولاً عن دائرة معينة من الأعمال عليه أن يكون على مستوى من التدبير والإدارة بحيث لا يقع تحت تأثير ترغيب أو ترهيب الآخرين، وفي سبيل الوصول إلى الأهداف الإدارية الصحيحة لا ينحرف نتيجة أي تطميع أو تهديد. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال: "واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأساً منهم لا يقهره كبيرها ولا يتشتت عليه كثيرها"12.
وشرحه: أن على الوالي أن يجعل على كل دائرة أو وحدة مسؤولاً يمتلك هذه الصفات، أن لا يرى الأعمال الكبرى كبيرة عيه فتقهره وتحيّره، ولا تسلبه القدرة على الابتكار واتخاذ القرارات الصائبة والتوكل على الله سبحانه. وإذا هجمت عليه الأعمال الكثيرة والحوادث المتلاحقة لا يفقد توجهه السياسي، ولا تتزلزل إدارته وحركته. فالاضطراب والحيرة من أسوأ آفات اتخاذ القرار الإبداع. فإذا فقد مسؤول مؤسسة ما القدرة على العزم والإدارة على أثر الضياع والحيرة، فإن عرى المؤسسة تتفكك. وكما أن كل مدير ينبغي أن يتمتع بالقدرة الإدارية الكافية، فعلى العاملين والإداريين معه أن يتحلوا بهذه الصفة أيضاً.
وفي الختام لا بد من ذكر هذا الأصل الأخلاقي وهو أن المسؤولين والعاملين لو أدركوا تماماً أن جميع المناصب ليست إلا أمانة وهي ليست فخراً، وأن زوالها ليس ضعفاً- لأن للفضيلة والرذيلة معايير أخرى- فإنهم لن يقعوا تحت تأثير أي تهديد أو ترهيب.
1تفسير الصافي، سورة الرحمن.
2 نهج البلاغة للفقيه ج 227.
3 نهج البلاغة ج232.
4 الكافي ج1، كتاب العقل والجهل ح3.
5 نهج البلاغة للفيض، الكتاب 47.
6 المصدر السابق، خ 5.
7 نهج البلاغة الكتاب 61.
8 نهج البلاغة، الكتاب 13.
9 نهج البلاغة، الكتاب 53.
10 من لا يحضره الفقيه، ج3، رقم 3580.
11 نهج البلاغة، الكتاب 53.
12 نهج البلاغة، الكتاب 53.