نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

محاور ودلالات خطبة الزهراء عليها السلام



الشيخ مصطفى قصير


لا تقاس غزارة العلم بكثرة الآثار الواردة، ولا تتوقف معرفة القدرات الفذّة على الكثير من الاختبارات والممارسات، فقد تكشف الكلمات القليلة عن معدن علم مكنون، وقد يُظهر النزر اليسير من الأفعال والأقوال عظيم القدرات والإمكانات.

سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها عاشت قليلاً ورحلت سريعاً، ولم يورد لنا التأريخ – مع الأسف – الكثير من آثارها، ورغم ذلك كلّه بلغت الذروة في كمال ذاتها وصفاء جوهرها وعظيم فضلها وغزير علمها.

حسبنا في ذلك ما جاء به الذكر الحكيم من آيات المدح والثناء، وما تكرّر على لسان أبيها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من مناسبة ومقام في شأنها وفي بيان منزلتها وفضلها، وهو الذي لا ينطق عن الهوى.

ولو لم يكن بين أيدينا من آثارها إلاّ الخطبة الشهيرة التي جادت بها في أواخر أيام حياتها، لكفى بها دليلاً ساطعاً وبرهاناً قاطعاً على أنّها فرعٌ من تلك الدوحة المباركة، وأنّها قد حظيت بفضل وعلم ومنطق لا تجد مثله إلاّ في البيت النبوي المبارك المخصّص بالتطهير والمسدّد بالوحي والتنزيل.

* الأبعاد السياسية للخطبة:
جاءت خطبة السيدة الزهراء سلام الله عليها في سياق تاريخيّ مفعم بالأحداث المؤلمة وفي سياق حركة احتجاج أطلقتها السيدة الزهراء عليه السلام بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الدنيا الفانية، وبعدما حصل من إقصاءٍ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن حقّه السياسي ومقامه الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه، وبعد الحصار الاقتصادي الذي فرض على أهل البيت النبوي عليهم السلام والذي كان من أشكاله مصادرة مقاطعة "فدك"، هذه المقاطعة التي منحها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل وفاته بفترة ليست قصيرة لكريمته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في خطوة احترازية – على ما يبدو – ناظرة إلى هذه المرحلة العصيبة التي سيكون فيها وصيّه وخليفته بحاجة إلى بعض مصادر التمويل، وقد بلغها سلام الله عليها مصادرة "فدك" وإخراج وكيلها منها، فخرجت للمطالبة بها، ودخلت في خصومة من أجلها.

هذه الخطبة لم تكن خطوتها الأولى في هذا الخصام فقد سبقتها بالمطالبة وبإقامة الشهود والبيّنات على ملكيتها لها، لكنّ الشهادة ردّت، والبيّنات رفضت، رغم عدالة الشهود ووضح البيّنات، فحوّلت سلام الله عليها عنان القضيّة من المطالبة بالنّحلة إلى المطالبة بالميراث الثابت بأصل الشريعة وبنص القرآن، فجاءت الخطبة في دائرة الاستدلال على الميراث.

والجدير بالإشارة أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام كانت تريد من خلال الخطبة ما هو أبعد من المطالبة بالحق المادي، وإن كان هذا الحق يشكّل عنصراً مهماً في الحركة السياسية، كونه أحد فروع العصب الاقتصادي المؤثر في الواقع السياسي، فقد جعلت السيدة الزهراء عليها السلام من الخطبة مناسبة لتحريك الأمة وتعبئة الأنصار على الخصوص وفضح الانحرافات القائمة عن الدين وأحكامه، وذكرتهم بوصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومكانة علي عليه السلام ومنزلته ودوره في إرساء دعائم الدين وجهاد المشركين.
وهذا الأمر يكشف عن دور الزهراء عليها السلام الفاعل والمؤثّر في الصراع السياسي آنذاك، ولا شكّ في أنّ مكانة السيدة الزهراء عليها السلام ومحلّها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شكّلا عامل قوّة وتأثير كان من شأنه أن يمنح حركتها وموقفها وكلامها بُعداً خاصاً في نفوس المسلمين.

* محاور الخطبة:
جاءت خطبة السيدة الزهراء عليها السلام متضمنة لمجموعة من الأمور التي ركّزت عليها وتناولتها بحديثها، ومن الممكن تقسيمها إلى المحاور التالية:
المحور الأول: الحمد والثناء على الله عزّ وجل والشكر على نعمة وآلائه، ثمّ الشهادتان، شهادة التوحيد ببان رائع لحقيقية التوحيد وإخلاصه وعظيم صفات الباري عزّ وجل، والشهادة بالنبوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي بها يكتمل الإسلام، بيّنت خلالها فضل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفلسفة بعثة الأنبياء، وما يترتّب عليها من نتائج.

المحور الثاني: التذكير بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما تركه فيهم من كتاب الله وعترته الأطهار وكأنّه إشارة إلى حديث الثقلين الذي يأمر المسلمين بالتمسّك بالقرآن والعترة النبوية، وهو الحديث الذي كرّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواطن عدّة على ما ورد في النصوص، أثناء حجّته الأخيرة، وفي حضرة جمع من الصحابة في حجرته التي قضى فيها أيام مرضه الأخير، وستكرّر سلام الله عليها التعرّض لهذه النقطة بعد ذلك، لكنّها هنا أوردتها في سياق الشهادتين لأنّ التمسّك بالثقلين بعد الإقرار بالشهادتين يمثل الأديان بعد الإسلام، والعمل بعد العلم، والانتقال من العقيدة إلى المنهج السلوكي.

المحور الثالث: تعرّضت فيه سلام الله عليها إلى فلسفة ما أمر الله به وما نهى عنه، ببيان دقيق وعبارة محكمة بليغة، كشفت من خلالها الغاية القصوى من تشريع الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك ممّا شرّعه الله تعالى وأمر به وما حرّمه ونهى عنه.

وهذا المحور من المحاور العظيمة المهمّة التي تشكّل مصدراً من مصادر المعرفة بالنسبة لنا، وهو يكشف عن مدى علمها ومستوى معرفتها وبلاغة منطقها الذي يتعالى عن كلام البلغاء والحكماء.

المحور الرابع: إلتفتت سلام الله عليها إلى الناس من جديد، لتذكّرهم بنفسها، قالت عليها السلام:
"أيها الناس! إعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم..".
لماذا تنتسب السيدة الزهراء لهم وتعرفهم بنفسها، مع أنّهم جميعاً يعرفونها حقّ المعرفة، ولماذا لم تبدأ بذلك في صدر خطبتها إذا كان هناك حاجة للتعريف بنفسها؟!!!

الانتساب هنا لم يكن بدافع التعريف قطعاً، ولم يكن بداعي الافتخار عليهم بنسبها وإن كان هذا النسب غاية الفخر والاعتزاز والشرف والكرامة، لكنّها عليها السلام على ما يبدو أرادت أن تمهّد لموضوع تريد أن تتعرض له بما يشبه الدليل غير المباشر، فهي فاطمة تلك التي طالما حدّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفضائلها وسجاياها، هي أمّ أبيها، هي سيدة نساء العالمين، هي الحوراء الإنسية، هي وليدة بيت الوحي والنبوة، هي المطهّرة من الرجس، هي الشجرة الطيّبة.. وهذا كلّه يعطي لكلامها وقعاً خاصاً، ولمواقفها بعداً ريادياً، ويجعل من الردّ عليها ومخاصمتها ومعاداتها رداً على كلّ ذلك وإنكاراً لكلّ ما ورد في شأنها وتكذيباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يؤذيه ما يؤذيها، وهذا مثله مثل انتساب الإمام الحسين عليه السلام لأهل الكوفة يوم عاشوراء، الذي ورد في سياق تأكيد الحجّة عليهم وتشديد النكير على فعلتهم.

ثمّ ألحقت ذلك عليها السلام ببيان فضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحقّه على المسلمين ومعاناته في سبيل هداية الأمة وإرساء دعائم الدين، تمهيداً للتذكير بما فعلوه بابنته وأهل بيته، على خلاف القاعدة القاضية بحفظ الرجل في ولده، وردّ فضله وإحسانه بالإحسان إلى أهله.
ثمّ ذكّرت بدور ابن عمّها علي عليه السلام في مؤازرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخوض غمار الحروب في سبيل الدفاع عن صرح الدين والقضاء على الشرك.

المحور الخامس: وفيه شرعت سلام الله عليها بوصف حال الأمة بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومخالفة الوصية، ودحضت حججهم الواهية التي تمسّكوا بها في تبرير تلك المخالفة.
هذا المحور يدلّ على أنّها سلام الله عليها كانت قد خرجت إلى المسجد لهدفٍ تجاوز المطالبة بإرثها، إلى نصرة الإمامة والاحتجاج على الناس وتذكيرهم بوصايا الرسول الأكرم فيما يرتبط بذلك، وقد ذكرنا في البداية أنّ المطالبة بالإرث ربما كانت إحدى وسائل الانتصار لإمامة علي عليه السلام.

المحور السادس: الانتقال إلى قضية الميراث، وهنا أيضاً تظهر المقدرة الفائقة لفاطمة الزهراء عليها السلام في الاستدلال وإقامة الحجج، فقد أوردت الدليل تلو الدليل والآية بعد الآية على ما شرع من التوارث بين الأرحام حتّى وإن كانوا من الأنبياء، وهو حكم عام يشمل هذه القضية ولا يوجد أي مانع من الموانع التي وضعتها الشريعة، ولم يرد أي تخصيص.
وفي مقابل الحجّة الواضحة والبرهان القاطع لم يجد القوم إلاّ دعوى الاستثناء من القاعدة وتخصيصها بغير الأنبياء، بإيراد نص مزعوم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة ولا داراً ولا عقاراً، وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوّة، وما كان لنا من طعمة فهو لولي الأمر بعدنا..".

* وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أمرين:
الأول: أنّ صريح كلام السيدة الزهراء في آخر الخطبة إنكار صدور هذا الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإشارة إلى القاعدة القائلة بأن ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه، إذ أنّها قالت:
"سبحان الله! ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتاب الله صادفاً ولا لأحكامه مخالفاً، بل كان يتّبع أثره ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور؟!.."

والثاني: أنّه حتّى ولو سلّمنا جدلاً بصحة ما ورد، فكونه لولي الأمر من بعده، يعني أنّه لمن عيّنه ونصبه من بعده. أضف إلى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان قد جعل فدك نحلة وهديّة للزهراء عليها السلام في حياته ولم تكن ميراثاً، وكانت بيدها عليها السلام، ولها وكيل يقوم بأمرها، فأخرج منها وطلب من السيدة الزهراء عليها السلام أن تقيم البيّنة على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نحلها إياها، وهذه مخالفة صريحة لقواعد الحكم والقضاء الشرعي، حيث أنّها كانت صاحبة يد على الأرض، فهم المدّعون، وعليهم إقامة البيّنة بحسب الأصول والقواعد، ومع ذلك فقد ردّت بينة الزهراء عليها السلام بحجّة أنّها تجرّ النار إلى قرصها، اتهاماً لأهل البيت المعصومين، ولأصحابهم الأتقياء.
المحور السابع: خصّصت فيه السيدة الزهراء عليها السلام معاشر الأنصار بكلامها، فالتفتت إليها مخاطبة إياهم بعبارات الاستصراخ والاستنهاض، وأنكرت عليهم أن تسلب حقّها بينهم وهم ساكتون، ثمّ أنكرت عليهم قعودهم عن نصرة علي عليه السلام، وتخلّيهم عنه في ساعة العسر والشدّة.
وختمت كلامها بالتذكير بالموقف يوم القيامة وبعذاب الله الشديد.

* اشتقاق فاطمة من "فطر"
يكون الاشتقاق عند أهل اللغة على ثلاثة أقسام: صغير، كبير وأكبر.
فإذا كان المشتق والفرع مشتملين على حروف الأصل على الترتيب والنسق يسمّى اشتقاقاً صغيراً مثل (ضرب الضرب) (نصر النصر).
إذا كان الفرع يجمع حروف الأصل ولكن لم يلحظ فيه الترتيب يسمّى بالاشتقاق الكبير مثل جذب وجبذ.
وإذا لم يشتمل الفرع على جميع الأصل ولكن فيه أكثر حروف الأصل يسمّى بالاشتقاق الأكبر مثل هضم وخضم، ونبع ونبغ، قصم وفصم، وفطم وفطر. ولذلك ورد في الحديث الشريف: شقّ الله لك يا فاطمة اسماً من أسمائه فهو الفاطر وأنت فاطمة.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع

العراق/ميسان

نزار الكناني

2021-12-21 20:33:52

فاطمة عليها السلام ميزان الحق