الشيخ محمد توفيق المقداد(*)
الرشوة لغةً هي "الوصول إلى الحاجة بالمصانعة"، فالراشي هو مَن يعطي مَن يعينه على الباطل، والمرتشي هو مَن يأخذ المال ليساعد مَن يريد الحصول على أمر ليس له فيه حق، والرشوة قد تتحقق بدون طرف ثالث وسيط بينهما، وقد تتحقق عبر الوسيط ويُسمى "الرائش" وهو الذي يسعى بين الراشي والمرتشي يستزيد لأحدهما، ويحاول أن يستنقص للآخر.
فالرشوة إذاً هي عبارة عن استعانة الإنسان بوسيلة غير سليمة للوصول إلى تحصيل أمر ليس له فيه حق، ومعنى ذلك أن الممارس لهذا الفعل يريد الاستيلاء على حق الآخرين لا بالقوة والعنف، بل عبر طريق ملتوٍ بحيث يُظهر للآخرين أنه حصل على ذلك الأمر بطريقة مشروعة لا غبار عليها.
وحكم الرشوة في الإسلام هو الحرمة لأنها نوع من أكل المال بالباطل ومن دون وجه حق شرعي، وقد ورد في رواياتنا الشرعية العديد مما يؤكد حرمة المال المأخوذ رشوة من الناس مثل الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاء فيه: (يا علي: من السحت، ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر الزانية، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن).
بل وصل الأمر في الإسلام أن جعل كل من يعمل في قضية الرشوة ملعوناً ومغضوباً عليه من الله عزّ وجلّ لما في الرشوة من هدر وتضييع واستخفاف بحقوق الناس المقدسة في الإسلام، ولما فيها من الاعتداء الصارخ على أموال الناس وممتلكاتهم التي لا يجوز الحصول عليها إلا عبر الأسباب المشروعة والمباحة كما تقول الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم} وكذلك الحديث الشريف المعروف (الناس مسلّطون على أموالهم)، ومن الأحاديث التي تلعن ممارسي الرشوة نجد ما يلي (لعنة الله على الراشي والمرتشي) و(لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما).
بل وصل الأمر إلى حد جعل الرشوة من الكفر بالله عزّ وجلّ، وهذا واضح لأن من يمارس عملية الرشوة يعلم بأن ما يفعله هو خلاف الواقع ولا يطابق المجريات السليمة التي ينبغي أن تسير فيها الأمور ليصل الإنسان إلى حقه لو كان له حق في موارد التنازع، ومن الأحاديث في هذا المجال نشير إلى ما يلي: (إياكم والرشوة فإنها محض الكفر، ولا يشم صاحب الرشوة ريح الجنة) وهذا الحديث هو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك ما ورد عن الصادق عليه السلام (الرشا في الحكم هو الكفر بالله).
ولهذا نرى أن الإسلام نهى عن أن يكون الوالي على الأمة الإسلامية، أو على من يلي أمراً من أمور المسلمين من هذه الفئة المنحرفة التي تقبل الرشوة، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة الخطبة 131. ما يلي: (... وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل... ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع).
من هنا لا نستغرب أن يكون مصير المتعاملين بالرشوة هو النار وبئس القرار، لأنهم يأكلون حراماً ويمنعون الناس من حقوقهم ويظلمون أنفسهم وغيرهم، وينحرفون بالأمور والقضايا عن وجهتها الصحيحة والسليمة، ويشيعون الفساد في أوساط الأمة، ويؤسسون للخلافات والمشاكل بين الناس، ولهذا كله نجد الحديث التالي بأن (الراشي والمرتشي في النار) الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
بل إن الإسلام يعتبر أن قبول هدية من يقضي حاجة أخيه هي نوع من الرشوة التي ينبغي أن يترفع الإنسان عنها ضماناً لعدم الوقوع في شراك الرشوة مع الاستمرار في التعاطي بهذا الشكل، وهذا ما نجده في تفسير قوله تعالى: {أكالون للسحت) ومعنى ذلك "هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديته" وهذا التفسير للآية واردة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام.
ومن هنا نرى أن الإمام علياً يوضح أن من بين أسباب هلاك الأمم والشعوب السابقة على الأمة الإسلامية هو تعاملهم في ما بينهم بالرشوة وتعدي بعضهم على بعض بهذا الأسلوب اللاأخلاقي واللاإنساني والمجرد عن الضمير والوجدان والكاشف عن فقدان حالات الشرف والعفة والفضيلة من النفوس، ويقول عليه السلام في هذا المجال (إنما هلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحق فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه).
وعليه يتضح أن الرشوة محرمة شرعاً في أي ميدان من الميادين ولا مبرر لمن يقبض المال بعنوان الرشوة، ولا مبرر لمن يدفعها أيضاً، فهي مال حرام لا يملكه آخذه، ولا يحل له أن يتعرف فيه بشيء، بل يجب عليه رده إلى صاحبه ومالكه الذي لم يخرج عن ملكه أصلاً.
كما أن هناك بعض الموارد من الرشوة والتي قد يتوهم بعض الناس أنها ليست داخلة فيها فيجيزون لأنفسهم أخذ المال أو الهدايا، وهذه الموارد سوف نأخذها من استفتاءات السيد القائد الإمام الخامنئي "دام ظله" ومنها:
* يمنح بعض المتعاملين موظفي المصرف أموالاً نقدية وغير نقدية في مقابل إنجاز معاملاتهم بشكل أسرع وتقديم خدمات أفضل لهم علماً أنه لولا قيام الموظف بذلك لما كان المتعامل يعطيه شيئاً من المال، فما هو حكم أخذه للمال في هذه الحالة؟
ـ لا يجوز للموظف أن يأخذ شيئاً من المتعاملين لقاء إنجازه للعمل الذي استخدم من أجل القيام به، والذي يأخذ الراتب في مقابله، كما أنه ليس للمتعاملين مع البنك تطميع الموظفين بمنحهم شيئاً من النقد أو غيره في مقابل إنجازهم لطلباتهم لما في ذلك من الفساد.
*ما هو حكم الهدايا من النقود والمأكولات وغيرها التي يقدمها المراجعون عن رضا وطيب نفس لموظفي الدولة؟ وما هو حكم الأموال التي تدفع إلى الموظفين كرشوة سواء كانت لتوقّع عمل للدافع أم لم تكن، وإذا ارتكب الموظف عملاً مخالفاً طمعاً بالرشوة فما هو حكم ذلك؟ ما هو حكم الأموال التي تدفع بعنوان الهدية للموظفين إذا كانت من عند الدافع بلا طلب منه وعن رضاه؟
ـ يجب على الموظفين المحترمين أن تكون علاقتهم بعامة المراجعين بتقديم الخدمات إليهم على أساس القوانين المتبعة في الدولة وطبقاً لمقررات العمل والضوابط الخاصة بالدائرة، ولا يجوز لهم تقبُّل أي هدية من المراجعين مهما كان عنوانها لما في ذلك من التسبب إلى إساءة الظن وإلى الفساد وإلى تشجيع وتحريض الطامعين لإهمال القوانين وتضييع حقوق الآخرين، وأما الرشوة فمن البديهي أنها حرام على الآخر والدافع كليهما، ويجب على من أخذها ردها إلى صاحبها وليس له التصرف فيها.
* يعرض المهربون على بعض الموظفين مبالغ من المال في قبال غض النظر عن مخالفتهم للقانون، وفي حالة رفض طلبهم يتعرض الموظف للتهديد بالقتل، فما الذي يجب على الموظف عمله عند ذلك؟
ـ لا يجوز استلام أي مبلغ مقابل التغاضي عن مخالفات المهربين.
* ما هو حكم الأموال التي يعطيها بعض البائعين إلى وكلاء الشراء من الدوائر أو الشركات من دون إدراجها في القيمة المسجلة على الوصل بالنسبة إلى البائع؟ وما هو حكمها بالنسبة إلى الوكيل في الشراء؟
ـ لا يجوز للبائع دفع مثل هذا المال إلى الوكيل، ولا يجوز للوكيل استلامه، وكل ما يأخذه الوكيل يجب أن يسلّمه إلى الدائرة المعنية التي كان وكيلاً عنها في الشراء.
* الموظف أو العامل في شركة حكومية أو خصوصية الذي تكون وظيفته تأمين حوائج الدائرة أو الشركة بالشراء وكالة من محلات البيع، فهل يجوز أن يشترط على من يشتري منه الحوائج بأن يكون له نسبة مئوية من الربح الحاصل بالشراء منه، وهل يجوز له استلام مثل هذا الربح؟ وما هو الحكم إذا أجاز له المسؤول الأعلى مثل هذا الشرط؟
ـ ليس له مثل هذا الاشتراط، ولا يصح منه بل يكون باطلاً، فليس له استلام وأخذ ما اشترطه لنفسه من الربح، وليس للمسؤول الأعلى الإذن له في هذا الشرط ولا أثر لإذنه وإجازته في ذلك.
ويبقى هناك مورد واحد أجاز فيه الإسلام للإنسان دفع الرشوة، وذلك المورد هو انحصار استنقاذ الحق من غاصبه أو من الممتنع عن أدائه أو من غير المعترف بذلك الحق، ففي هذه الحالة التي انحصر فيها الوصول إلى الحق واستنقاذه من أيدي المعتدين عليه يجوز دفع الرشوة هنا لأنه لا يراد منها الوصول إلى أمر باطل، وسماحة السيد القائد آية الله العظمى الإمام الخامنئي "دام ظله" يقول في استفتاء موجّه إليه ما يلي:
* ما هو حكم دفع الرشوة لانتزاع الحق مع العلم أن ذلك قد يوجب مزاحمة الآخرين كتقديم صاحب الحق على غيره؟
ـ لو لم يتوقف أصل استنقاذ الحق على دفع الرشوة لم يجز له ذلك، وإن لم يستلزم مزاحمة الآخرين فضلاً عما لو أوجب مزاحمة الغير بلا استحقاق.
فالنتيجة هي أن الرشوة محرمة ولا يحل للمرتشي أخذ المال ولا بد للمؤمنين الملتزمين أينما كانوا في مواقع العمل أن يبتعدوا بأنفسهم عن هذه الآفة المحرمة التي تفسد الإيمان والحياة وتؤدي بالنهاية إلى الضلال وإلى النار وبئس القرار.
* مدير مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي في لبنان.