السيد عباس نور الدين
الحديث عن الآداب المعنوية للصلاة هو حديث عن الوظائف الباطنية التي ينبغي القيام بها أثناء هذه العبادة من قبل باطن الإنسان. وهذه الوظائف لا تقف بعرض الوظائف الشرعية الظاهرية، بل هي لبّها وباطنها. وعندما نتأمل في حقيقة هذه الآداب المعنوية نجدها مختصرة في التوجه. أي مكننا أن نستبدل كلمة الآداب المعنوية بعبارة التوجهات الباطنية. والتوجهات تنبع من المعرفة وعرفان العابد. وبمقدار ما تكون معرفته صحيحة وراسخة تكون توجهاته كذلك. والمطلوب من السالك أن يوصل تيار المعرفة بقناة التوجه. حتى تكون توجهاته تعبيراً عن معرفته. ولا شك بأن صحة المعرفة وقوتها دخيلتان في التوجه. فإذا كانت معرفته مشوبة أو ناقصة فإن عبادته لن تكون صحيحة. وقد جاء في الأحاديث الكثيرة أن الناس يعبدون على قدر ما يعرفون. وعندما سئل الإمام الصادق عليه السلام: لماذا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال (عليه السلام): "لأنكم تدعون من لا تعرفونه". كذلك ينبغي أن تصل المعرفة إلى درجة من القوة بحيث تتحول إلى تيار من الطاقة الروحية التي تري من خزان المعرفة إلى محرك التوجه. ومن كانت معرفته اصطلاحية أو عقلية بحتة لا يمكنه أن يصنع توجهاً عميقاً في صلاته وعباداته. ولهذا، فإنه سيحتاج إلى المجاهدة والدعاء وكل ما من شأنه أن يرفع درجة المعرفة عنده إلى مستوى تيار الطاقة المطلوبة.
وخلاصة الكلام، إن جميع الآداب المعنوية للعبادات تقوم على أساس المعرفة. وما يقوم به السالك هو الالتفات والتوجه والتلقين وتقوية قدرة الم عرفة في وجوده لتصبح سبباً لحضوره التام بين يدي الله تعالى.
ذلك لأن العبادة تهدف إلى تحقيق هذا الأمر، ولا معنى ولا هدف أسمى من الحضور في كل العبادات الإسلامية.
أما إذا تحقق للعابد الحضور في المحضر الإلهي، ورأى وجوده محضراً، والعالم محضراً، فإنه يقترب من الفناء في أسماء الله، ويشاهد حقيقة الوجود ويرى حقيقة فقره وسقط رداء الكبرياء، ويستغرق في أنوار سبحات الجمال والجلال، ويصل حينها إلى المطلوب من الكمال.
وكما أن العبادة تحتاج إلى المعرفة القوية، فإنها مسؤولة أيضاً عن تقويتها. وإذا أقبل العبد على العبادة متوجهاً إلى هذه القضية تصبح عبادته وسيلة للعرفان أيضاً.
ولنفرض أن سالكاً رأى في نفسه هذا الضعف، واعترف بوجدانه أن معرفته بالله لا تناهز البرهان العقلي، وأخذه الخوف والوجل من جراء هذا الاحتجاب والعمى، ثم أقبل على الصلاة معترفاً خائفاً داعياً متضرعاً، وجاهد نفسه في التوجه إلى معاني كلمات الصلاة وحركاتها، وسجد لله متذللاً معفراً جبين العزة المستعارة، فإن الله سبحانه وتعالى وكما وعد عباده سيأخذ بيد هذا الجاهل المسكين ويوصله إلى أعلى درجات اليقين. قال الله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.
والآن أعد النظر إلى وصايا الإمام وتوجيهاته المتعلقة بالوظائف الباطنية أو الآداب المعنوية للصلاة، فستجده في كل حين يدعوك إلى التوجه إلى حقيقة هنا وحقيقة هناك، ويأمرك بتلقين القلب هذه الحقائق حتى تترسخ وتتجذر في كل كيانك، ليكون وجود الإنسان بأسره عابداً، وتسري غاية العبادة من اللاهوت إلى الملكوت ومنه إلى الملك، وينال الإنسان مقام العصمة بحبل الله المتين.
أما الأذان والإقامة فهما من المقدمات التي تهيئ السالك لنيل شرف الحضور بواسطة الصلاة.
ويقسم الإمام المصلين إلى فئتين. الأولى: المشتاقون والعاشقون. والثانية: فئة المحجوبين.
والأذان يختلف بالنسبة لكل فئة. فهو عند الأولى استعداد وتهيؤ لما سيحصل أثناء الصلاة من تجلي المحبوب بجماله أو جلاله. وعند الفئة الثانية: إعلان وتنبيه لكي لا يسيء الأدب في الصلاة التي هي المحضر الإلهي. وكأن الأذان يشبه الجنود والأعوان والخدام الذين يصطفون عند باب المليك المقتدر. فإذا رأى الوافد مثل هذه الأبهة والعظمة قبل الدخول تأخذه الهيبة، فلا يتجاسر في محضر المليك إذا دعاه للوفود إلى حضرته.
يقول الإمام قدس سره:
"وإن كان من المحجوبين، فلا يدخل المحضر المقدس بدون تهيئة الأسباب والآداب".
وقد يكون المصلّي مبتلى بمرض آخر، وهو أنه لا يرى حقيقة موقفه بين يدي الغني المقتدر. ولهذا يقول الإمام "الأدب الإجمالي للأذان هو التنبه إلى عظمة المقام وخطره وعظمة المحضر والحاضر، وتذلل الممكن وفقره وفاقته ونقصه وعجزه عن القيام بالأمر وعجزه على الاستعداد للحضور في المحضر إذا لم يؤيده الحق بلطفه ورحمته ويجبر نقصه".
وفي هذا الكلام وغيره مما ذكره سماحة الإمام إشارة إلى أدب جوهري في كل العبادات يقوم على ركيزتين. الأولى: الاعتراف بالعجز والفقر. والثانية: إدراك عظمة المعبود وغناه.وكلما تعمق السالك بهذه المعرفة والاعتراف ازداد تأثير عبادته في نفسه وقُرب من العبودية الحقة. لأن العبد الحقيقي هو الذي لا يرى لذاته وجوداً ولا صفة ولا فعلاً مقابل وجود الله وصفاته وأفعاله. وهذا هو عين الفقر والتعلق بالغني المطلق. وإذا تم له ذلك صارت عبادته معاشقة ومعانقة لذكر الحق كما يقول الإمام.
وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:
أفضل الناس من عشق العبادة وعانقها وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على يسر أم على عسره".
ثم يذكر الإمام ثمرة هذه العبادة القائمة على ملاحظة جمال الله وجلاله. وهي تجلي الحق سبحانه على قلوب المصلين الذين وصلوا إلى مقام الحضور. فإن العاشق التائق يرى في الصلاة لقاء المحبوب. والمحبوب يتجلى له كل حين بصورة.
فمرة يتجلى له بالتجلي اللطفي. وأخرى بتجلي العظمة والسلطنة، وثالثة بالتجلي الأحدي الجمعي باللطف والقهر المندكين في اسمه الأعظم. وتحصل له على أثر هذه التجليات حالات قد لا يسعها ملك مقرب.
أما نحن المحجوبون، المشتغلون بالدنيا والمحبوسون في سجن الطبيعة والمغلولون بأغلال الآمال والشهوات، فإننا خارجون عن هذه الحالات. ولهذا علينا أن نراعي جملة من الوظائف القلبية الأخرى. ولكن أهم هذه الوظائف والآداب عدم اليأس من روح الله، والاعتقاد التام الذي لا يشوبه أي شك بأن الله تعالى إذا أراد أن يجعلنا من أوليائه المقربين فإن ذلك لا يعجزه، وهو سبحانه قادر على صنعنا بيدي الجمال والجلال في أقل من لمح البصر.
وهذا يتطلب القضاء على الوهم "بأن لباس هذه المقامات قد خيط على قامة أشخاص خواص". لا فليس الأمر مثلما نتوهم. لأن للمقامات المعنوية والمعارف الإلهية مدارج غير متناهية. وإن المقام الأعظم لكمّل أهل الله تعالى لا يعني أن الباقين لا يكون لهم حظ من الكمال وإذا وردت الأحاديث التي تبين اختصاص مقامهم فهذا لا يعني أنهم دخلوا وأقفلوا الباب. فهم الأدلاء على الله، وإن أكثر حزنهم يرجع إلى أن الناس كانوا يعرضون عن تعاليمهم ويرفضون دعواتهم المتكررة لهم بالدخول.
وإذا تمت معالجة هذه النقيصة الناشئة من التوهم وارتفعت البرودة عن همة السالك عليه أن يراعي أدباً آخر. وهو أن يرى محضر الحق تعالى كمحضر سلطان عظيم الشأن قد أدرك القلب عظمته. وذلك لأننا لم نتجاوز عن مرتبة الحس والظاهر، وليس في أعيننا سوى العظمة والجلال الدنيويين، وليس عندنا خبر عن العظمات الإلهية الغيبية.
ولكن المشكلة ستبرز مجدداً فيما لو كنا نفتقد مثل هذا النظر حتى إلى العظمة الدنيوية. حيث نرى البعض لا يدركون من هذه الدنيا إلا أخس ما فيها. فلا هم ملاحظون للجمال المحدود فيها ولا الكمال. وهذا المرض العضال الذي يصعب علاجه كثيراً يحتاج إلى الدعاء الشديد والإصرار الأكيد، والإجابة إن شاء الله حاصلة من الرب الودود.
ثم "نفهَم قلوبنا أن كل عظمة وجلال وكبرياء هي تجلي عظمة عالم الملكوت، وقد تنزلت هذه العظمة، إلى هذا العالم. وإن عالم الملكوت بالنسبة إلى العوالم الغيبية وفي جنبها ليس له قدر محسوس". وكل العوالم ما ظهر منها وما بطن ليست إلا تجلي صفات الحق تعالى. فهو عزّ وجلّ حاضر في كل شيء. وليس هذا العالم وما سواه إلا النطق والإشارة والآية إليه.
وهذا التفهيم المشفوع بالعبادة القائمة على أساس توجيه وجهة السالك إلى حقيقته، يمكّن ويرسخ هذه الحقيقة في النفس فتصبح مستعدة لتجلي الحق سبحانه بما يفوق عالم الطبيعة وآياته المحدودة. ولا ننسى أن الصلاة بظاهرها عبارة عن تلك الأفعال والحركات التي تعلن عن التذلل والتعظيم. يقول الإمام قدس سره:
"فإذا قمنا بالآداب الصورية للتعامل مع مالك الملوك وأتينا بالآداب الحضورية الظاهرية يحصل أثر منها في القلب أيضاً، وستشعر القلب العظمة ويصل الإنسان تدريجياً إلى النتائج المطلوبة".
والواضح من هذا الخطاب، أن على المصلي أن يقوم بأفعال الصلاة كما هي حتى ولو لم يحصل له في البداية التذلل والتعظيم المطلوب. فإذا رأى الله سبحانه من عبده هذه المجاهدة والتكلف في إظهار التعظيم يلقي في قلبه الإنس به ويرفع عنه الكلفة والعناء.
يقول الإمام (قدس سره):
"والإنسان إذا قام بالأمر وجاهد في سبيل الله فالحق تعالى يؤيده وينجيه باليد الغيبية من ظلمات عالم الطبيعة وينور أرض قلبه المظلمة بإشراق نور جماله، ويبدله بها السموات الروحية، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً أن الله غفور شكور".