الأذان إعلان، والإقامة استعداد وتهيّؤ، إعلان عن قُرب الحضور وتجهيز للّقاء. لا يقدر عباد الله، مهما بلغوا من العرفان، أن يتحمّلوا سطوع التجلّيات الإلهيّة على قلوبهم؛ ولهذا لا بدّ من التحضير والتهيّؤ. وإذا كان السلوك المعنويّ يبدأ من المعرفة، فلا شكّ في أنّ مجموع الأحكام الإلهيّة يمثّل برنامج هذا السلوك المعنويّ، ومنها الأذان والإقامة. ولكي نجعل أذاننا وإقامتنا وسيلة عروجنا في هذا السفر، ينبغي أن نتوجّه إلى المعاني الكامنة في أسرارهما.
•سرّ الأذان وأدبه
اعلم، أنّ السالك إلى الله لا بدّ له في الأذان من أن يعلن للقلب، الذي هو سلطان القوى الملكوتيّة والملكيّة، ولسائر الجنود المنتشرة في الجهات المشتّتة للملك والملكوت، إعلان الحضور في المحضر. وحيث إنّه قد قرب وقت الحضور والملاقاة، فيهيّئ تلك القوى؛ فإن كان من أهل الشوق والعشق، لا يفقد الصبر والتحمّل من التجلّي المفاجئ. وإن كان من المحجوبين، فلا يدخل المحضر المقدّس بدون تهيئة الأسباب والآداب.
فالسرّ الإجماليّ للأذان هو الإعلان للقوى الملكوتيّة والملكيّة والجيوش الإلهيّة للحضور. والأدب الإجماليّ له هو التنبّه لعظمة المقام وخطره وعظمة المحضر والحاضر، وذلّ الممكن وفقره وفاقته ونقصه وعجزه عن القيام بالأمر وعن القابليّة للحضور في المحضر، إن لم يؤيّده اللطف والرحمة للحقّ جلّ وعلا ويجبر نقصه.
•سرّ الإقامة وأدبها
الإقامة هي إقامة القوى الملكوتيّة والملكيّة في المحضر، وإحضارها في الحضور. وأدبها هو الخوف والخشية والحياء والخجل والرجاء الواثق بالرحمة غير المتناهية.
والسالك لا بدّ له من أن يُفهّم قلبه، في فصول الأذان والإقامة جميعها، عظمة المحضر والحضور والحاضر، ويجعل ذلّ نفسه وعجزها وقصورها نصب عينيه، حتّى يحصل الخوف والخشية. ومن الجانب الآخر، لا بدّ من أن يريه الرحمة الواسعة والألطاف الكريمة، حتّى يحصل له الرجاء والشوق.
•أنواع القلوب في الحضور
القلوب العشقيّة يغلبها الشوق والجذبة، وهي تخطو بقدم الحبّ والعشق في محضر الأنس. فهذه القلوب تشتغل، بهذه الجذبة الغيبيّة وبما فيها من عشق المحضر والحاضر، إلى آخر الصلاة، بالمعاشقة والمعانقة مع ذكر الحقّ وفكره. عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "أفضل الناس من عشق العبادة وعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على يسرٍ أم على عسر"(1). والقلوب الخوفيّة يتجلّى لها سلطان العظمة، وتغلب عليها جذبة القهر، وتجعلها في حالة الصعق، ويذوّبها الخوف والخشية، ويمنعها عن كلّ شيء القصور الذاتيّ والاستشعار بذلّة نفسها وعجزها.
•القلوب وأنواع التجلّيات الإلهيّة
يتجلّى الحقّ تعالى لأوليائه الكمّل تارةً بالتجلّي اللطفيّ، ويكون العشق والجذبة الحبّيّة هادياً لهم، كما في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتظر الصلاة، ويشتدّ عشقه وشوقه، فيقول لبلال المؤذّن: "أرحنا يا بلال"(2).. وأخرى بتجلّي العظمة والسلطنة، فيحصل لهم الخوف والخشية؛ كما نقلت الحالات الخوفيّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أئمّة الهدى عليهم السلام، وثالثة بالتجلّي الأحديّ الجمعيّ على حسب طاقة قلوبهم وسَعة أوعيتها.
•المحجوبون ووظائفهم القلبيّة
ونحن -المحجوبين، المشتغلين بالدنيا، والمغلولين بأغلال الشهوات والآمال، الذين لا نفيق من نومنا الثقيل أبداً- خارجون عن نطاق هذه التقسيمات؛ فآداب الحضور لها طور آخر، والقيام بالوظائف القلبيّة على شكل آخر، منها:
1- عدم اليأس: أن نُخرج من قلوبنا اليأس من رَوح الله والقنوط من رحمته، اللذين هما من الجنود العظيمة لإبليس، ومن إلقاءات شياطين الإنس والجنّ، ولا نتوهّم أنّ لباس هذه المقامات قد خِيط على قامة أشخاص خاصّين، وأنّ أيدي آمالنا عنها قاصرة، فلا نخطو ونبقى في الوهن مخلّدين. لا، فليس الأمر على ما نتوهّم. نعم، في الوقت نفسه، إنّ المقام الخاصّ لكمّل أهل الله لا يتيسّر لأحد، ولكنّ للمقامات المعنويّة والمعارف الإلهيّة مدارج غير متناهية، ولها مراتب كثيرة، يتيسّر للنوع أكثر تلك المقامات.
2- استشعار العظمة: أدبُ الحضور بالنسبة إلينا هو أنّه لا بدّ لنا في بدء الأمر؛ لأنّنا لم نتجاوز مرتبة الحسّ والظاهر، من أن نرى محضر الحقّ تعالى كمحضر سلطان عظيم الشأن قد أدرك القلب عظمته، وأنّ عالم الملكوت بالنسبة إلى العوالم الغيبيّة وفي جنبها ليس له قدر محسوس؛ فنُفهّم القلب أنّ العالم هو المحضر المقدّس لحضرة الحقّ، وأنّ الحقّ تعالى حاضر في الأمكنة والأحياز جميعها، وبالخصوص الصلاة التي هي إذنٌ خاصّ للحضور، وميعادٌ مخصوص للملاقاة والمراودة مع الله.
فإذا استشعر القلب العظمة، ولو تكلّفاً، فإنّه يأنس به بالتدريج، ويصبح هذا المجاز حقيقة، ويحصل أثر من الآداب الصوريّة في القلب، ويصل الإنسان تدريجيّاً إلى النتائج المطلوبة. وكذلك بالنسبة إلى آثار الحبّ والعشق، فإنّها -أيضاً- تحصل بالتحصيل والرياضة.
3- التوكّل على الله: إذا جاهد الإنسان في سبيل الله، فالحقّ تعالى يؤيّده وينجيه من ظلمات عالم الطبيعة، وينوّر أرض قلبه المظلمة بإشراق نور جماله، ويبدله بها السموّ الروحيّ ﴿وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ (الشورى: 23).
(*) مقتبس من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الباب الأول: بعض آداب الأذان والإقامة، الفصل الأول (بتصرُّف).
1.مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج1، ص120.
2.الوافي، الفيض الكاشاني، ج3، ص248.