لقد انطلقت الثورة الإسلامية في هذا العصر اثر الصرخة المدوية والقوية والخالدة التي أطلقها الإمام الخميني، لقد علت صيحة فقيه العصر هذا وحكيمه من قلب هذه الأمة المحكومة والمستضعفة والمهتضمة في إيران، التي خمدت أنفاسها وحبست آهاتها في صدرها سيطرة أرباب التبر والزور، فظل أنين المظلومين حبيس حناجرهم الظمأى، ومرة واحدة ارتفعت تلك الصرخة فمزقت نقاب الظلم وبشرت باقتراب صبح الانعتاق والحرية.
وفضلاً عن قيادته الثورية، فإن الإمام الخميني فقيه إسلامي، أي "مظهر ذلك الإيمان" وهو مرجع للتقليد، أي "تجسيد لثقة الناس وتجلّ لتضامنهم". إنه كالأنبياء، يريك من خلال وجوده: الدين والسياسة، والثورة، والله والشعب، دفعة واحدة، وثورته تعيد إلى الأذهان ثورات الأنبياء الإلهيين.
إنه محيي التفكير الديني ومؤجج شعلة الإيمان وخالق أعظم ملحمة شعبية في عصرنا هذا.
إن مجموعة بيانات الإمام هي صحيفة ثورتنا، وهذه المجموعة تحدد ملامح المسيرة الثورية للشعب منذ بدئها وحتى تحقيق الانتصار، ومنذ انتصارها حتى اليوم وهذه المجموعة توضح اتجاه الحركة المستقبلية لشعبنا ومحتواها، وتذكرنا بواجبنا وتكاليفنا في الفترة الواقعة بين الثورتين العظيمتين، ثورة سيد الشهداء عليه السلام وثورة المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء).
حقاً إن الشخصية العظيمة لقائدنا ـ الكبير وإمامنا العزيز ـ لا يمكن مقارنتها ـ بعد أنبياء الله والأولياء المعصومين ـ بأية شخصية أخرى. لقد كان وديعة الله عندنا وحجة الله بين ظهرانينا ودليلاً على عظمة الله، حينما كان يراه المرء يدرك جيداً عظمة عظماء هذا الدين، فليس بمستطاع الإنسان أن يدرك عظمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعظمة أمير المؤمنين عليه السلام وعظمة سيد الشهداء الحسين عليه السلام وعظمة الإمام الصادق عليه السلام وبقية الأولياء، إذ أن عقولنا أصغر من أن تستطيع أن تدرك عظمة شخصية أولئك الافذاذ. ولكن حينما يرى المرء شخصية بعظمة إمامنا العزيز فإنه يخشع ويهطع رأسه إجلالاً وإكباراً لكل تلك الخصال السامية التي كان يتحلى بها والأبعاد المختلفة التي تتوفر فيها شخصيته، من الإيمان القوي، والعقل الكامل، والحكمة، والنبوغ، والصبر والحلم والوقار، والصدق والصفاء، والزهد وعدم الاعتناء بزخارف الدنيا والتقوى والورع ومخافة الله والعبودية المخلصة لله: وهكذا شخصية لها كل هذا القدر من العظمة وتجمع كل تلك الأبعاد لهي بعيدة عن متناول الأيدي ويتعذر بلوغ مستواها.
إن واحدة من المزايا التي كانت في إمامنا العزيز تكفي لأن تجعل من الإنسان العادي إنساناً عظيماً.
في اليوم الذي غادر فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحياة حصلت في المدينة ضجة كبرى أعادتها إلى أذهاننا بعد ألف وأربعمئة عام الضجة الكبرى التي حصلت في يوم وفاة إمامنا العزيز.
لقد منَّ الله علينا بعبد من صالحي عباده وخيرتهم وأفضلهم، وولاه أمورنا وابتعثه ليوقظنا ويرشدنا ويقود مسيرتنا إلى وادي الدين معتمداً على القدرة الإلهية والعزم والإرادة الرحمانية، وليوظف طاقاتنا، ويملأ قلوبنا رحمة ببعضنا البعض ويعرفنا على عدونا.
لقد كنا ـ في الحقيقة ـ أمواتاً فأحيانا الإمام، وكنا ضلاَّلاً فهدانا الإمام، وكنا غافلين عن الوظائف الكبرى للإنسان المسلم فأيقظنا الإمام وأرشدنا إلى سواء السبيل، بحيث أمسك أيدينا وشجعنا على المسير وكان هو في طليعة السائرين.
النقطة الأساس في عمله أيضاً، الذوبان في الإرادة الإلهية والتكليف الشرعي. ولم يكن يهتم بأي شيء عدا هذا الأمر.
لم يتردد الإمام الجليل لحظة واحدة في السير في طريق الله، ولم يدّخر ذرة واحدة مما في وسعه دون أن يستفيد منها في طيّ هذا الطريق، وظلّ مثابراً ـ بكل ما أوتي من طاقة وفي كل آن من آنات حياته ـ في السعي الحثيث لبلوغ ذلك الهدف السامي والمقدس، وقد أعانه الله على ذلك.
بعد عودة الإمام من باريس، لو فرضنا أن ما حدث لم يحدث أو حدث العكس منه. ولو فرضنا أننا قتلنا جميعاً نحن المحيطين بالإمام والمرتبطين به، وتم اعتقال الإمام ونفيه من جديد وقمع الشعب كله، لما أحسّ الإمام بالهزيمة والفشل ولبقي يؤمن بقوة أننا نحن المنتصرون. وقد حصل هذا الانتصار بالفعل..
لقد استطعنا، ببركة قيادة الإمام، أن نجتاز منعطفات عجيبة وحاسمة ومرت مسيرتنا بمناطق وعرة ومنعطفات حادة لكنها اجتازتها كلها، ولم يتيسر اجتيازها لولا الهداية الإلهية.
وحتى سماحة الإمام نفسه، كان يعتقد بهذا الأمر، وسمعت ذلك منه مباشرة، ولربما كنت قد قلت سابقاً عن لسان الإمام أنه قال: إنني أحس ومنذ بداية الثورة أن ثمة يد هداية (غيبية) تقوم بفتح السبل أمامنا وتساعدنا وتسددنا، وكانت هذه هي الحقيقة، وكان الله تبارك وتعالى يمنّ بمثل هذه الهداية في قبال الجهاد والإخلاص والصفاء والنورانية.
لم يكن باستطاعة أحد أن يحرك الشعب الإيراني سوى تلك اليد الشديدة البأس، وكل هذا مرده إلى شخصيّته. وفي اعتقادي أن أهم سر يكمن في سر نجاح شخصيته هو الإخلاص والتوجه إلى الله، اللذان جعلاه متصلاً بالله. ولقد جسّد في عمله معنى "إياك نستعين" أي أنه جعل نفسه متصلة بمصدر القوة الخالدة.
في اليوم الذي أعلن فيه سياسة "لا شرقية ولا غربية" كان عدد الذين يؤمنون بإمكانية إيجاد حكومة لا تعتمد على الشرق أو الغرب وإدارتهما قليلاً جداً.
وفي اليوم الذي صرح فيه قائلاً إن أمريكا لا يمكنها أن ترتكب أية حماقة، كان عدد الذين يؤمنون بذلك قليلاً أيضاً.
لقد أنجز هو كل هذه الأعمال الضخمة، وكان يؤمن بتمكنه من انجازها، بسبب توكله على الله، وعلى الرغم من أنه كان يعتبر أيضاً أن انجاز العمل ليس هدفاً بحد ذاته، لكنه كان يقوم بوظيفته فقط.
كان الإمام حكيماً بالمعنى الحقيقي للكلمة... الحكمة بمعناها الحقيقي الوارد في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.
فقد وهبه الله بصيرة كان يرى من خلالها بعض الأمور التي كنا عاجزين عن رؤيتها مهما بذلنا من الدقة والتأمل والتفحص، بينما كان هو يراها بنظرة عابرة. فكانت كلماته منطلقة من قلب كهذا، وناتجة عن حكمة كهذه.