استمسكوا "من العرى بأوثقها" و"من الحبال بأمتنها"، كانوا "من اليقين على مثل ضوء الشمس" أخلصوا لله فاستخلصهم، هم معادن الدين وأوتاد الأرض، هم الشهداء الذين اختفوا خلف بنادقهم فبدت المقاومة دونهم، نكتب عنهم السطور وهم سطّروا الملاحم بدمائهم الوردية، بمسك عرقهم، بنجيع دموعهم، بعبق آلامهم ورحيق الصبر.
* طفولته:
سبقت ولادة الشهيد أمنية والدته أن يكون المولود متصفاً بالصفات العلمائية التي كان يتحلّى بها سماحة السيد موسى الصدر، وكانت مناسبة الأمنية مشاهدة الوالدة للسيد وهو يخطب ويعظ في حسينية بلدتها. 18 آذار 1967 كان موعد تحقّق الأمنية، يولد محمد بوجهه الجميل المشرق وشعره الأشقر وعيناه العسليتان، ويكبر في بلدته كفرحونة ومن ثمّ في منطقة الشياح، يترعرع بين أخوته وأقرانه الذين كان معهم، إلاّ أنّه لم يكن مثلهم، لديه الكثير ممّا يميزه عنهم، الهدوء والسكينة رفيقاه الدائمان، والبسمة المستوطنة على وجهه تبديه أكثر تألقاً، الفتى جميل ومميز، والوالدة تخاف الأعين الحاسدة، فتعيذه بالسورتين (الفلق والناس). وتتكرّر العوذة كلّ يوم، بعدها يأتي زمن المدرسة لتكون المكان الذي تتجلّى فيه معالم شخصيته الفذّة فيحتلّ المرتبة الأولى في الصف الذي يكون فيه برغم درسه القليل الذي استعاض عنه بجودة حفظه وتوقد ذهنه، فكان من الطبيعي، والحالة هذه، أن يلتفت إلى أم الكتب (القرآن الكريم) فيتخذه صديقاً، يرتل سوره القصار (الناس – العصر – الفلق..)، كانت تلاوته الخاشعة المتأنية تبدو كأنّها محاولة مبكرة للتدبّر في آيات الله تعالى.
* مواهب مبكرة:
1976 محمد في العاشرة من عمره، والحرب اللبنانية المندلعة تدفع بأهله مجدداً نحو القرية، وهناك وعبر مثلثها الشهير تعبر قوات الردع العربية من البقاع الغربي إلى قلب الجنوب، مشهد لم يألفه محمد، فيقف على شرفة المنزل كأنّه في فرقة رصد، يرسم كلّ ما يشاهده لينطلق بعد ذلك باحثاً عن بعض الأخشاب التي يحضرها من بين أشجار الصنوبر، فيحول الرسوم إلى مجسمات، وتنتهي الورشة بعد مدّة بصناعة عدد كبير من مجسمات الآليات والجنود، وربما من وحي هذه الأشكال التي كان يلهو بها بدأ يردّد باستمرار بعض الأناشيد الثورية ويعزف بموازاتها ألحاناً من الموسيقى الثورية والهادئة... وكانت هذه إحدى المحطات الباكرة لبروز مواهبه المتعدّدة، ويأتي العام 1989 فيكون للعائلة موعد جديد مع الهجرة والتهجير فتغادر منطقة الشياح (بسبب حرب عون) وتسكن في بلدة كفر شلال، وهناك في أجواء الجنوب الهادئة والموحية رجع محمد إلى مواهبه القديمة بوعي أكبر، فرسم لوحات عدّة، منها لوحة (انظر الصورة) تظهر فيها خارطة لبنان والشمس تشرق في جنوبه، والغيوم ملبدة في سمائه، ووجه يبكي دماً، ملأ الخريطة بأسرها، هذه اللوحة ترمز إلى أنّ النصر والتحرير يبدأ من الجنوب، وأنّ الحلّ الحقيقي يكون من هناك، وهي لا تعبر فقط عن موهبة الرسم لديه، وإنّما عن وعي سياسي كبير لحقيقة الصراع والأزمات والحل في لبنان.
وفي رسم آخر (انظر الصورة) تظهر أم شهيد تبكي وهي تقرأ على ضوء الشمعة وصية ولدها، هي في الحقيقة رسم متخيّل لأمّه وهي تقرأ وصيته بعد شهادته.
* التزامه وعبادته:
التزم الشهيد باكراً قبل بلوغه سن التكليف، فهو بلغ ملتزماً، محافظاً على صلواته، يؤديها في أوقاتها، ويتلو القرآن الكريم بشكل دائم، كما أنّه كان يمارس فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك كان يقوم بتكاليفه الشرعية في حياته اليومية.
تصف أمّه عبادته فتقول: "يقف في صلاته حاني الهامة، مطأطئ الرأس، مرتعش.. وجهه القاني أصفر لشدّة خشوعه، تخرج الآيات من فمه كتسبيح ملائكة"، كما أنّ حاله عند تلاوته للقرآن الكريم لم تكن لتختلف عن ذلك أبداً.
كان الشهيد توّاقاً لزيارة المقامات المقدّسة على مشرفيها آلاف التحيات، في العام 1995 منّ الله تعالى عليه بزيارة الإمام الرضا عليه السلام، كما منّ عليه بالتوفيق لأداء مناسك الحج في العام نفسه، حيث حصلت له هنا قصّة غريبة رواها لأمّه مشترطاً عليها عدم ذكرها لأحد، وتقول والدته في رواية القصّة أنّ الشهيد أضاع في منى نعليه، ولم يكن من المتيسر أن يحصل على غيرها في ذلك المكان، فإذا ترجل تقدم منه وأعطاه نعلين جديدين في كيس نيلون، فاستغرب الشهيد ذلك، حيث أنّ أحداً لا يلتفت إلى أحد في تلك المنطقة، والزحام على أشدّه واعتقد هو ووالدته أنّ الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف كان هو ذاك الرجل.
* علاقته بأهله وزوجته:
حرص الشهيد دائماً على نيل رضا والديهن وكان لا يحبّ مخالفتهم أبداً، حتّى عندما كان يشعر أنّ لديه واجب آخر لا يقبلان بالقيام به.
كان في اللحظة التي تحتاجه فيه العائلة يحضر ليأخذ دور الأب والأم والابن والأخ، فلم يكن يتقاعس عن مساعدة أهله أبداً.
كان عندما يريد الذهاب إلى عمله الجهادي ويضطر للغياب عن أهله يبيّن لهم ضرورة غيابه ويطلب منهم الصبر والكتمان ويسألهم الدعاء وخاصّة من أمّه.
كما أنّه يوم أراد أن يتزوج الفتاة التي اختارها زوجة له، كان شرطه الأول أن تلتزم بتعاليم القرآن الكريم (الصلاة، الصوم..) وذلك بكل صدق وأمانة، إضافة إلى الالتزام بالحجاب واللباس الشرعي، وقد كان حريصاً على علاقة إسلامية مميزة مع زوجته.
أمّا في فترات غيابه المتعدّدة والكبيرة فكان يكتب رسالة إلى أمّه يبثها ما في قلبه كأسلوب من صلة رحمه وحسن المعاشرة لأهله.
ومن الأمثلة على ذلك ما فعله بعد عملية عناقيد الغضب (حرب نيسان 1996) حيث جاء إلى منزل والديه سائلاً عن أبيه، فقيل له أنّه في زيارة العتبات المقدّسة في العراق، فغضب الحاج محمد عندما سمع ذلك واستنكر على والده عدم اصطحاب أمّه (أم الحاج) معه، بعد أن أوضحت الوالدة سبب عدم ذهابها وهو رغبتها في البقاء في لبنان لتتبع أخباره – أخبار الحاج أثناء العدوان – ألحّ عليها في زيارة الإمام الحسين عليه السلام يوم الأربعين رغم الحرّ والمشقّة في تموز، وأكّد لوالدته أنّ في ذلك الأجر والثواب، طالباً منها أن تزور بالنيابة عنه وتصلّي له قضاءً لحاجة، وأن تمسك قفص ضريح الإمام عليه السلام وهي تدعو له بالشهادة.
* جهاده:
مارس الشهيد الجهاد بأشكاله المختلفة، فهو التحق منذ العام 1980 بكشافة الرسالة الإسلامية، وكان عمره يومها 14 عاماً، فكان فيها قائداً مميزاً وكانت تلك محطة أولى في حياته الجهادية الطويلة.
تشكلت المحطة الجهادية الثانية عندما اجتاحت إسرائيل لبنان (1982) وبزغ فجر المقاومة الإسلامية، التي التحق بها منذ انطلاقتها، وكان يعمل في الدفاع المدني خلال العام 1985، وكان يتغيّب عن البيت، وفي أوّل مرّة غاب فيها ترك رسالة لوالدته، وتتكرّر غيبات الشهيد، وفي إحداها كتب رسالة لطيفة عام 1988 يعلم أمّه فيها أنّه سيقوم برحلة بين الصخور والأشجار ويطلب منها كتمان الأمر، وهو قصد من خلال عباراته إخفاء طبيعة عمله الجهادي.
لقد كان الشهيد محباً للجهاد، وبمقدار شوقه له وبالقدر الذي كان يرى مسؤولية الجهاد عليه عظيمة، بالقدر ذاته كان يشعر بالألم والمرارة عندما يمنعه مانع من مرض أو غيره في المشاركة في الجهاد، وفي إحدى المواجهات غاب عنها لمرضه سمعته أمّه يناجي ربه "يا الله انصرهم وارحمي واشفني وعافني لنصرتهم، كلهم في ساحة الوغى وأنا في فراشي كالفار من ساحة الحرب..".
في العام 1990 قرّر الشهيد التفرّغ كلياً للعمل الجهادي، وتوقف عن متابعة أعماله العادية ودراسته في الجامعة، وبدأت فترات غيابه تكبر أكثر وأكثر، ولم يؤثر على أسلوب عيشه زواجه، ومن ثمّ إنجاب زوجته لطفله الأول علي (1991)، كما كانت تظنّ والدته حيث اعتقدت أنّ الشهيد سيخلد للراحة والاهتمام بشؤون المنزل فقط، سريعاً خاب أمل الوالدة بعد أن خرج "أبا علي" إلى ساحة جهاده ليغيب هناك عدّة أشهر.
لقد كانت ربى وأودية الجهاد في جبل عامل أحب الأمكنة إليه، وكان التحاف السماء وافتراش الأرض هناك أفضل لحظات حياته، ولم تنل السنون من عزيمته رغم ما أصاب جسده من آلام وأمراض نتيجة سلوك درب ذات الشوكة، فلا إصابته بتمزق أعصاب في يده ولا انكسار فكّه الأسفل ولا التواء قدمه ولا حتّى آلامه المتكرّرة في كليته كانت تمنعه من متابعة الطريق، وكان سرّ ذلك كلّه يكمن في حبّه للشهادة.
* حبّه للشهادة:
بحث الحاج محمد عن الشهادة منذ أيام جهاده الأولى، فتعقبها في تلال عاملة، وعلى كلّ الثغور، وحتّى في عمق الأرض المحتلة في الجنوب، ورغم أنّه كان يفتّش عنها بصمت إلاّ أنّ الخبر ذاع وأظهرت فلتات لسانه عظيم عشقه.
كان الشهيد يحدث كثيراً عن الشهادة والشهداء، وكان يلفت إلى ضرورة أن تتحمّل أمّه آلام المصاب والصبر وأن تتحلّى بسيماء الصابرات، فلا تخدش وجهاً، ولا تشقّ جيباً، ولا تلطم صدراً، ولا تلبس سواداً، وتقول والدة الشهيد أنّه كان يحضّرها "ليوم استشهاده" وكان يردّد دائماً أمامها أنشودة "أماه إنّي راحل لا تحزني، إن متّ زغردي في مأتمي".
كان الحاج يعتبر أنّ عمره قد طال كثيراً، ويتأسف على الأيام التي يعيشها دون أن يستشهد، وكان يعتبر أنّ جسمه يجب أن يبقى نحيلاً ضعيفاً ليساعده على السرعة في الحركة، فيستطيع بذلك أن يؤدّي دوره في الجهاد، ولذا عندما كان يشعر أنّ وزنه قد زاد بعض الشيء يبدأ بعملية تخفيض ذاتي للوزن.
كان يدعو لنفسه باستمرار بالشهادة، وأن يرزقه الله ما رزق أئمته وساداته، ولشدّة حبّه للشهادة وتعلّقه بالجهاد كتب رسالة إلى أخيه يدعوه فيها للعودة إلى لبنان والمشاركة في واجب الجهاد ونيل الشهادة.
ويوم رزقه الله تعالى زيارة الإمام الرضا عليه السلام دعا الله عزّ وجل أن يرزقه الشهادة في سبيله، كذلك عندما ألحّ على أمّه في زيارة الإمام الحسين عليه السلام طلب منها أن تمسك بقفص الضريح وأن تدعو له بالشهادة.
* شهادته:
حضر قبل أيام من شهادته إلى منزل والديه كان مستعجلاً، كانت الوالدة في المطبخ، حاولت أن تضع له الطعام لكنّه رفض مستأذناً إياها في الخروج إلى البقاع لمدّة 5 أيام على أن يعود بعدها بإذن الله تعالى، قبّلها وخرج، وخرجت معه مودّعة، لكنّه عاد وقبّلها ثانية، وقبل أن يغادر الباب الخارجي قبّلها القبلة الثالثة والأخيرة، لقد كانت قبلة حارّة أحسّت بها الأم، لكنّها لم تحسب لها الوالدة أيّ حساب، رغم عادتها في سؤاله عن المكان الذي سيذهب إليه أن هو كرّر القبلة أكثر من مرّة.
في الوقت الذي كانت فيه جثث (123) شهيداً أسيراً تشقّ طريقها عائدة يرافقها 145 أسيراً ومعتقلاً من سجن الخيام بعد نجاح عملية التبادل بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، كان الحاج محمد يسارع الخطى نحو الشهادة، عساه يلتحق بركب الشهداء، وقد بدا له جلال موكبهم.
فكان موعده معها يوم الخميس 26/7/1996 على طريق رب ثلاثين في عمق المنطقة المحتلة هناك خاض الحاج حارث المواجهة البطولية والأخيرة مع أعدائه الصهاينة حيث استشهد هو والأخ المجاهد جمال عبد علي خليل ليلتحقا بركب الشهداء بعد أن نالا درجة الشهادة في المكان الذي أحبّ وعلى يد العدو الذي يريد فأصبح هناك شهيداً أسيراً وليعود ويلتحق بعد فترة وجيزة بركب الشهداء الأسرى المحرّرين ولتحتضن جثمانه الطاهر تراب الوطن المحرّر.
فالمجد والرحمة للشهداء
وللأمة النصر والخلود
*يشارك في إعداد هذه الصفحة مركز حفظ آثار الشهداء/مؤسّسة الشهيد.