صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

تسابيح جراح: يـوم رُدّت إلـيّ روحي


لقاء مع الجريح المجاهد مهدي عبّاس الهبش (أبو عبّاس)
حنان الموسويّ


"إنّه حيّ! لم تُردِه تلك الطلقة، أسرعوا لإسعافه.."!

بذا تفوّه الطبيب حين تساقط الحبُّ النديّ من مقلتَيه عند رؤيتي. لقد أحيا عمري من جديد. هي معجزة تجسّدت، ويبقى ضباب المعاني قاصراً عن التعبير.

 
كنّا نزاحم الأجرام في خلواتها، نشقّ في كبد السماء والأرض معابر، ونلاحق التكفيريّين لتحرير الأرض، فقرار الهجوم اتُّخذ وبدأ. كلّ مجموعة تعي مهمّتها؛ مجموعة الهندسة فتحت الطريق، ونحن كمجموعة تدخّلٍ تبعناها. وعند عبوري الشارع على بُعدِ أمتار فقط من الهدف الذي وجب تطهيره، باغتتني لسعة اخترقت جبيني! لم أعِ ما حصل لي، إلّا أنَّ طلقة قنّاصٍ حلّت ضيفةً في رأسي لثوانٍ وغادرته، خلّفت خلفها شهيداً حيّاً، لم توقفه إصابته السابقة عن استكمال مهمّته، لكنّ هذه على صغرها أردته على الأرض.

* فقرٌ وغنى 
تزاحمت رائحة الإيمان والفقر في بداية نشأتي؛ فقد ترعرعتُ في بيئة كان لحبّ الله في نفوس أفرادها حظّ وافر. عائلتي متديّنة تُعرف بالالتزام الدينيّ، لذا اعتدتُ الصلاة والصوم وارتياد المسجد منذ الصغر.

عام 2005م؛ خضعتُ لدورة عسكريّة. وبعدها بدأتُ العمل لمساعدة أهلي ماديّاً. وفي عام 2007م، انضممتُ إلى صفوف المجاهدين. وبعد أن بدأت المعارك مع التكفيريّين في سوريا، كان تكليفي الدفاع عن مقام السيّدة زينب عليها السلام والأهل هناك.

* وصيّةٌ ووداع
لم تكن المرّة الأولى التي أتوجّه فيها إلى سوريا لأداء واجبي الجهاديّ، لكنّ الوضع كان يُنذِر بهجومٍ عنيفٍ ردّاً على تجاوزات الدواعش واعتداءاتهم. شعوري في ذلك اليوم كان مختلفاً. وعلى الرغم من إخفائي، عن عائلتي وأسرتي، مكان عملي، إلّا أنّي كنت أودّعهم فرداً فرداً وداع مفارق. وكان لوداع ابني عبّاس نكهةٌ خاصّةٌ، فقد حفظتُ تفاصيله عن ظهر قلب، وكنتُ أتساءل: ما حكاية هذا الشوق نحوه وما سببه؟! طلبتُ المسامحة من الأهل، وأوصيتُ زوجتي بأن تدفع ولدي عبّاساً ليكون مجاهداً في خطّ حزب الله إن ما رزقني الله الشهادة في هذا الهجوم.
 
*"يا بقيّة الله"
بدأت المواجهات. كانت رشقات الرصاص تلهو بين أقدامنا، تفضي الدروب إلى الدروب. استمرّ الهجوم منذ صلاة الفجر وحتّى الغروب. استشهد خلاله صديقي المقرّب الشهيد حسين البرزاوي (سيف)(1) أمام عينيّ. قطف الألوان من عين المساء، وتناثر جسده.

قمنا بالهجوم الثاني مع ولادة الفجر الجديد. طلب منّي صديقي تغطيته كي يتقدّم، وما هي إلّا لحظات حتّى أحسستُ بحرارةٍ في بطني، كانت طلقة BKC قد اخترقت الدرع وفَرَت لحمي، فسالت الدماء. هويتُ وهوى رفيقي فوقي ظنّاً منه أنّي استشهدت، بعد أن لهج لساني بالاستغاثة ببقيّة الله الأعظم عجل الله تعالى فرجه الشريف، ثمّ تلاشى صوتي في جهاتٍ تقتفي موت الهواء في رئتيّ. دقائق معدودة وعدتُ إلى وعيي. وقفتُ على الرغم من الألم لأطمئنّ إلى المجاهدين، فصُعق رفيقي حين رآني ماثلاً أمامه! ضمّد المسعف جرحي بعد أن أزال سبطانة سلاحي التي التصقت بلحمي، وطبّبني. تابعنا الهجوم، وخلال اجتيازي الطريق أُصبتُ في رأسي، وبدأ النور يتهاطل من عينيّ مع الدماء، واختفى فجأة! وكغيمةٍ يابسة استقرّ على وجهي الدم. بقيتُ ممدّداً ثلاث ساعات، إلى أن استطاع المجاهدون سحبي.

* إنّه حيّ!
ظنّ الجميع أنّ العطر فاح ولاقيتُ الشهادة؛ إذ لا إشارات للحياة من نبض ولا حتّى نَفَسٍ داخل جوفي. نُقِلت في الإسعاف إلى مشفى دار الحكمة في بعلبك، وحين همّوا بوضعي في برّاد الشهداء، قام الطبيب بمعاينتي للمرّة الأخيرة، وإذ بنبضٍ خافتٍ تسرّب خلسةً إلى معصمي، فهُزِمَ الكلام على باب ثغره، وكنَبيٍّ بهيِّ التأويل صاح: "إنّه حيّ، رُدَّت إليه الروح، انقلوه إلى غرفة العناية مباشرةً"!

خضعتُ لجراحةٍ، وعدت إلى وعيي في اليوم التالي. لم تكن حالتي مستقرّة، فاضطرّ الأطبّاء لنقلي إلى مشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيروت، ومكثتُ فيه مدّة شهرٍ، خضعتُ خلاله لجراحتين في عينيّ وبطني. بعدها سافرتُ إلى إيران، وخضعتُ لجراحة تجميليّة للمُقلَتَين.

* أرضيتَ يا ربّ؟
عدتُ إلى المعاني ناقصاً من فهم حالتي، حين حاولتُ فتح عينيّ عاجزاً. بدا النور مطفـأً. طلبتُ من الطبيب إضاءة الأنوار، ولكنّ نسيم الجنّة عبق بقربي، وللحظة تيقّنتُ أنّي فقدتُ مقلتيّ. وبدمعٍ يكسر الحزن توجّهتُ إلى الله سبحانه وتعالى قائلاً: "أرضيتَ يا ربّ؟ خذ حتّى ترضى". همَّ الطبيب حينها بالبكاء واحتضنني بلهفة. بعدها، تواصلنا مع أهلي، فعرفوا أنّي مصابٌ، ووافوني إلى المشفى سريعاً. والحمد لله أنّ ردّ فعلهم كان زاخراً بالصبر على هذا الاختبار، واحتساب الأمر.

الجرح كرامة من الله، وأنا أحمده وأسأله أن أكون من الشاكرين لأنعمه، فمواساتي لأبي الفضل العبّاس عليه السلام من أعظم النِعم.

من أثمن الأرزاق التي رزقني الله إيّاها أنّ البسمة لا تفارق مبسمي في الظروف كلّها، تغازل المطر المجروح في عينيَّ ضاحكة، لأتقبّل كلّ بلاء باحتسابٍ وغبطة، وأتعامل مع خالقي باليقين، فيذهلني بالمعجزات.

* لطف الله يحيط به
تزوّجت عام 2011م، ورزقت بعبّاسي قبل الإصابة، وبعدها أهداني الله أميرتي "مانيسّا" التي عانت منذ ولادتها من داء الارتخاء العصبيّ، فالشلل احتلّ كلّ عضوٍ في جسدها النحيل، وقد عرضتها على الكثير من الأطبّاء، لكنّ الأمل كان بالطبيب الحقيقيّ وهو الله سبحانه وتعالى، الذي لطالما رجوته وتوسّلته من أجلها. وعند بلوغها عامها الثالث تقريباً، وفي شهر رمضان، مشت "مانيسّا" فجأةً. حين حملتها شرعتُ بالبكاء، وسجدت لربّي شاكراً على استجابة دعوتي. كما أنّه امتحن صبري بولدي الغالي، الذي التقط جرثومة نادرة هاجمت دمه، لكنّ الخالق بكرمه أفاض عليّ بشفائه بعد مشوارٍ طويل من المعاناة.

وأمّا عن زوجتي الصابرة المحتسبة، فطول البلاء ما أثّر في عزيمتها وعقيدتها وثباتها، إنّما أصاب قلبها فأضعفه؛ لذا خضعت لجراحة ما زالت تعاني آثارها حتّى الآن.

هذا اللطف كلّه الذي اختصّنا الله به، ازدان بتأزّم وضعي، حيث فقدت حاسّتَي الشم والذوق، وأعاني من صعوبة في التنفّس، وذلك كلّه أراه جميلاً، فرحمة ربّي ترسم لي ضحكةً طريّةً أزرعها في نفوس اليقظين. 

* حروف من نور
أتوجّه للناس جميعاً، أن يثبتوا على الرغم من التحدّيات والأخطار الخارجيّة كلّها، التي تحدق بهذا الخطّ المقدّس والمسدّد من الله سبحانه وتعالى، والذي تكلّل بالانتصار على العدوَّين الإسرائيليّ والتكفيريّ، وأن يطلبوا من الله التعجيل في ظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف بصدق، آملين أن نكون من جنوده، ومن المستشهدين بين يدَيه. كما أطلب منهم عدم الخوف أبداً من سلوك طريق الحقّ، فطالما ساروا على هذا النهج، كانوا هم الأعلَين. وطالما نحن تحت قيادة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، ذاك السيّد الباسم في وهج الشمس، فلن يلحق بنا أذى ولا هوان.

وأتوجّه إلى سماحته بحروفٍ يتيمة: "أنا يا سيّدي من يحبّك بكامل قامته، دربي مشتّتٌ وأنت الوصال، كم أتمنّى لقاءك والتزوّد من نورك. آهٍ يا سيّدي كم أتمنّى العودة إلى سوح الجهاد لأكون طوع أمرك. أطال الله في عمرك الشريف، وحماك من الأعداء".

أمّا رسالتي للجرحى، فهي الصبر والثبات، والاستمرار رغم الجراحات، فواجبنا علينا ترجمته بأسلوبٍ جديد: جهاد الكلمة والموقف والعِبرة، وهو من أسمى أنواع الجهاد.


 
الجريح: مهدي عبّاس الهبش.

الاسم الجهادي: أبو عبّاس.

تاريخ الولادة: 25/4/1989م.

مكان الإصابة وتاريخها: القصير، 23/5/2013م.

نوع الإصابة: كفيف.


* استشهد في معركة القصير بتاريخ: 21/5/2013م. 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع