ولاء إبراهيم حمّود
جميل تركوه بيننا أمانة حبّ في تربة قلب، وصبر جبال تعجز عنه جبال الصبر الرواسي. إنّهنّ أمّهاتهم، وبهنّ وحدهنّ لا يعود الشهيد الغائب مفقودَ الأثر.
هذا المقال استكمال لما بدأنا الحديث عنه في العدد السابق، حول أمّهات الشهداء المفقودي الأثر.
•الشهيد حسن محمّد حمّود(1) ( نور حولا)
ترفض أمّ الشهيد "نور" فكرة زيارة الضريح الرمزيّ المُقام في حولا لشهيدها الغائب. هي تعلم أنّه فارغ من جثمان الغالي، لذلك تفضّل أن تهبه أجر عباداتها كلّها في منزلها؛ لأنّها ستصله من أيّ مكان أقيمت فيه، إلى حيث يقيم روحاً أو جسداً. كيف لا وهو الشهيد الذي تجول روحه الطاهرة في كلّ مكان؟!
تؤكّد أمّ الشهيد، أنّ كلّ شهيد هو بمكانة حسن، كما كان قبلاً كلّ مقاوم بمكانته، فمنذ ستّ سنوات مرت على استشهاده، وهي تطرح أسئلة عديدة عن مصير جسده، أقلقت قلبها طويلاً: مدفون هو أم العراء مرقده؟ أو لعلّه ما يزال حيّاً؟ عسى ولعلّ. مَن يدري؟
تعلن أمّ الشهيد حال الترقّب الدائم التي تعيشها أمّ لم يعد مع العائدين جثمان شهيدها، فتصبح كلّ رنّة هاتف جرس إنذار لخبر جديد أو لبشارة مفرحة، وتصبح كلّ طرقة باب صدىً لوقع خطاه؛ لأنّه ما يزال عند باب القلب، وعنه لم يرحل! علّه يعود يوماً، فينفي بذلك خبر استشهاده!
تؤكّد أمّ الشهيد أنّ غيابه عن احتفاليّة زفافه إلى جنان الله، يجعلها تعيش حزناً مضاعفاً، هو مزيج من حزن زينب عليها السلام وغربة الزهراء عليها السلام، ومع ذلك، تتعاطى مع هذا الغياب بإيمان ورضى، فيصبح هذا الحزن العظيم وساماً إلهيّاً وطريق نجاة.
تختم أمّ الشهيد "نور" بتأكيدها على مسلَّمات لأجلها مضى أبناؤنا جميعاً شهداء، ولكنّ بعضهم اختُصّ بمواساة فاطمة عليها السلام: "أن تكوني أمّاً لشهيد مفقود الأثر، هذا يعني أن يتعلّق قلبكِ أكثر بفاطمة عليها السلام، أن تتوسّلي إليها، كي لا تشيح بنظرها عمّن واساها، وأن تحتضنه في غربته، وتحنو عليه، فهو مثلها غريب في أرض غريبة، لا ضريح يعرِّف عن هويّته، ولا زوّار يؤنسون وحدته. أن تكوني أمّاً لشهيد ما يزال مرابطاً على تخوم غيابه، يعني أن يصبح انتظار القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف عبادة يوميّة، عسى بقدومه أن يكون شهيدكِ معه، ومَن أجدر من المواسين لفاطمة عليها السلام أن يكونوا في مقدّمة جيش حفيدها المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
•الشهيد محمّد حسن الخليل(2) (علي صابر)
تتذكّر أمّ الشهيد محمّد الخليل، الأسبوع الأخير الذي أمضته مع شهيدها في زيارة سيّد الشهداء عليه السلام في العراق، وتستعيد صوته الغالي يخبرها عن صوت يتردّد في أذنَيه: "هل من ناصر ينصرنا؟"، فتعتبر غيابه شهيداً، إكراماً من الله الذي وهبه ما كان يبتغيه. أمّا ذلك الأسبوع، فقد كان أسبوع وداع حافلاً أراده الله لها، فهما عادا من العراق في 2/4/2016م، وهو استشهد في 12/4/2016م.
تروي أمّ الشهيد عن اللحظة التي أخرجها فيها اتّصال هاتفيّ من قاعة المحاضرات في الجامعة منتظرةً سماع صوته، ففاجأها صوت آخر لئيم حاقد يتشفّى بإخبارها أنّ ولدها أسير وذبيح، فتماسكت وهي تجيبه أنّها قدّمته للزهراء عليها السلام. وتتابع أمّ الشهيد البطل، ببطولته مع الحياة، مسيرتها، فتهب روحه الطاهرة عناء بحثها في دراسة الموارد البشريّة وكيفيّة صناعة الإنسان فينا، مؤكّدةً بالدليل الحيّ أنّ الأحزان لن تمنعها من تحصيل العلم، وأنّ ثباتها أثناء مناقشتها أطروحتها وهي تهديها للحبيب الغالي، كان له في نفوس أعضاء لجنة المناقشة الأمر البالغ. وقد ترك شهيدها الذي رأى ذات وصال -تحت قبّة سيّد الشهداء عليه السلام- ببصيرته، آل البيت، أمّه في أمّته أجمل أثر كما جهاده في نصرته محمّداً وآل محمّد عليهم السلام.
•الشهيد محمّد مصطفى البوّاب(3)-(4) (نور علي)
تفتقد أمّ الشهيد محمّد شهيدها الغائب، في الأعياد كثيراً، ولم يشفِ ألمها ذاك الضريح الرمزيّ الذي أنشئ له في القرية. وهي تتألّم كثيراً؛ لأنّها تعبت من طول الانتظار، فهي ومن موقعها كمسؤولة الهيئات النسائيّة في قريتها، تزداد حزناً عند مشاركة كلّ أمّ شهيد في تشييع ابنها.
تقاوم الحاجّة صراعاً قويّاً بينها وبين نفسها، فهي سلّمت ابنها الشهيد لله ولآل البيت عليهم السلام، لذلك فهي تخجل أن تدعو الله ليعيده، بل تريده أن يبقى كما كانت الزهراء عليها السلام مخفيّة القبر. ولها فيها أجمل أسوة حسنة. هي على يقين من أنّ الشباب لن يألوا جهداً للمجيء به، لذلك لن تلحّ عليهم، وتخشى أن يخسر شهيدها بعودته إليها رعاية الزهراء عليها السلام له؛ لذلك تناجيه بقولها له: "خلّيك مطرح ما إنت مدفون بلا غسل وبلا كفن، متل الإمام الحسين عليه السلام". وتعلن أمّ الشهيد عن تجارة رابحة لابنها الشهيد، فهو يكسب منها في تشييع كلّ شهيد ثواب الصلوات والخطى في ذلك التشييع، وفي ذلك تعويض إلهيّ عظيم وتكريم يستحقّه مجاهد أبلى أحسن بلاء، ثمّ استشهد ولم يعد.
•الشهيد زين العابدين أحمد حرز(5)-(6) (ساجد)
تحمد أمّ الشهيد "ساجد" الله كثيراً، لأنّ أمنيّة ابنها قد تحقّقت، باستشهاده، كما يريد وأكثر. هي لا تشعر أنّها مشغولة بموعد عودته؛ لأنّها أوّل من أدرك ذلك شعوريّاً، لحظة استشهاده، وأسره. هي توقن أنّ ولدها ارتاح من هموم دنيا فانية، وفاز بنعيم الجنّة. تتذكّر بحبّ شعاره المفضّل: "حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة"، وتستذكر نقاشها معه حين كان يتألّم لعودته سالماً، وقد استشهد أحد إخوانه، فتطمئنه أنّه سينالها، لكنّ موعده لم يحن بعد. عاهدته على الصبر، فلم تبكِ يوماً بعد استشهاده أمام أحد. وإن أبكاها ظنّها أنّها قاسية القلب، فهي تستعيد تماسكها وتعلن أنّها ما ودّعته بالدمع يوماً، حتّى يذهب مرتاحاً إلى جهاده، قويّاً ثابتاً. كان زين العابدين عاشقاً لأئمّة آل البيت عليهم السلام، الذين كانوا أوائل المجاهدين؛ لذلك واساهم بروحه وجسده وكلّ ما يملك. كان يشدّد عليها أنّ الثبات بعد استشهاده مطلوب أكثر من أيّام جهاده، وأنّه صبر مبارك لقلب أمّ الشهيد.
تختم أمّ الشهيد حديثها متوجّهة إليّ: "إنتِ إم شهيد متلي، ومتلي حسّيتي بالنظرة الأخيرة، وآخر عبطة وآخر بوسة، وقلبك حدّثك إنّو يمكن هاي آخر مرّة... وما بقا تنعاد"!
•أجمل آثارهم
في ختام هذا التحقيق الأثير لديَّ، أتوجّه لأقول لأمّهات مفقودي الأثر جميعاً: نعم، صدقتِ سيّدتي، لقد أحسست مثلكِ بكلّ النهايات الجميلة والخواتيم العظيمة. أضيفي على ذلك أنّني أيضاً مثلكنّ امتثلت صابرة لرغبة والد شهيدي، أن أحتفظ له في ذاكرتي بصورته الأجمل في نظري، وتلك كانت نظرته الأخيرة في وداعنا الأخير. ومثلكنّ لم أره، ولم أكشف له وجهاً، ولم أقبّل له خدّاً أو يداً أو حتّى قدماً أتلمّس تحت كعبها موقع الجنّة! أتراني أستحقّ يا شريكات أشواقي وشقيقات آلامي، أن أنتمي إليكنّ وأنا أعلنكنّ في ختام تحقيقي عنكنّ، خازناتٍ لأسرار النصر، وحافظاتٍ لاستمراره، وسبباً أوّلاً وأخيراً لبقائنا جميعاً، خيرَ أمّةٍ أُخْرِجَت للناس تجاهد في الله في مواجهة العتاة والبغاة والطغاة، وتنتصر بأبنائكنّ وبكنّ، ليبقى بفضلكنّ إسلامنا محمّديَّ النشأة، علويّ الجهاد، حسينيّ البقاء. أشكّ في أنّني أستحقّ ذلك؛ لذلك تقبّلن شكري وامتناني وعرفاني، واقبلن منّي حبّ آخر الكلمات: بوركتنّ وبورك جهادكنّ المستمرّ، برتبة أمّهاتهم، أجمل آثارهم.
1.الشهيد حسن محمّد حمّود (نور حولا)، استشهد في رتيان- ريف حلب الشماليّ بتاريخ 17/2/2015م. استشهد الشهيدان نور حولا ونور علي في الموقع نفسه، وفي اليوم نفسه، وفي المواجهة نفسها، مع شهيد ثالث هو أيضاً مفقود الأثر من بيت صالح.
2.الشهيد محمّد حسن الخليل (علي صابر)، استشهد في تلّة العيس بتاريخ 12/4/2016.
3.الشهيد محمّد مصطفى البوّاب (نور عليّ)، استشهد بتاريخ 17/2/2015م.
4.للشهيد نور عليّ ابن خالة استشهد بعده بثلاثة أشهر؛ ياسر الخرّوبي.
5.الشهيد زين العابدين أحمد حرز (ساجد) استشهد في حلب بتاريخ 31/10/2015م.
6.تحتفظ والدة الشهيد زين العابدين حرز بفيديو لولدها بعد أسبوع من استشهاده، أرسله إليها الدواعش من هاتفه، وقد أرتنيه، ثمّ أرسلوا آخر بعد ستّة أشهر. ولد الشهيد زين العابدين حرز يوم ذكرى استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام، واستشهد في التاريخ نفسه هجريّاً يوم استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام.