تحقيق: ولاء حمود
إنّهم مفقودو الأثر! ونحن الذين بقينا بفضلهم على قيد العزّة وسجلّ الكرامة ونبض الحياة، ألسنا بعض آثارهم؟ ودحْر أعدائنا وانتصار عقيدتنا، ومهابتنا بين الأمم، أليست بعض آثارهم؟ والبيوت الآمنة، والأفراح المتجدّدة، ومواليد السعادة، وتراتيل العنادل، وترانيم المياه، وتسابيح المطر، أليست كلّها من آثار عيونهم المغروسة في تربة مجهولة، وبعضاً من عناء زنودهم المزروعة في تراب غربتنا المترامية في أوطان الله؟
في هذا التحقيق، نماذج من أمّهاتهم. وأمّهاتهم مثيلاتهم صبراً وثباتاً وجلالاً، بل وجمالاً. أكاد أحسبهنّ أمّاً واحدة، على الرغم من تباعد القرى، على درب واحدة بكلّ امتدادها في مرمى المخاطر واتّساعهــا على احتمـــــالات المشقّة في الغياب. هنَّ أعْلَنَّ الكثير وأخْفَيْنَ الأكثر، وما أعْلَنَّ إلّا جميلاً، وما أخْفَيْنَ إلّا الأكثر جمالاً. كيف ذاك؟! إليكم التفاصيل:
•الشهيد إبراهيم محمّد شهاب(1) (كميل)(2)
تفتخر أمّ إبراهيم بولدها، وتهنّئه إذ وصل إلى ما أراده دائماً، أن يكون مفقود الأثر، بعد أن كان مجاهداً في خدمة مقام السيّدة زينب عليها السلام. تعالج أمُّ الشهيد حنينها بالصبر، تأسّياً بالإمام الحسين عليه السلام، ويسعدها أنّ ولدها واساه ببقائه في العراء ستّة أيّام. وتزور أضرحة رفاقه الشهداء، وتجالس أمّهاتهم، فيجمعهنّ الشوق، ويضمّهنّ الحنين، ويحضر الشهداء الأحبّة من لوعة الغياب كلّ مجلس يحلو بمحضرهم.
تؤكّد أمّ الشهيد أنّها أقامت لولدها ضريحَين بدل ضريح واحد، تحرص على زيارتهما، أحدهما في القرية والآخر في روضة الحوراء زينب عليها السلام، وترى أنّ من صدَّ بمفرده ثلاثة هجومات على مقام السيّدة زينب عليها السلام، لن يبعده الغياب، على الرغم من الفيديو الذي عرضه الدواعش وهم يسلبونه فولاره الأخضر الذي كان يلفّه حول عنقه، وقد غفا متوسّداً شهادته، وقد تناثر شعره حول وجهه هالة من أنوارها البهيّة، في مشهد مهيب لا يفوقه جمالاً إلّا شهيدها نفسه. لا زالت أمّ إبراهيم تنتظر عودته، وتشهد شرفتها على لحظات ترقّبها وانتظارها له كلّما اتقّد شوقها إليه.
•الشهيد علي شفيق دقيق(3) (أمير)
لا تنتظر أمّ الشهيد "أمير" عودة أميرها إليها. هي تحتسبه عند الله، مسافراً إليه، وهو معها في كلّ حياتها، لم يفارق روحها. هي تأنس بحضور الشهداء في حياتها؛ لأنّهم أصحاب المراتب العالية، الذين تاجروا مع الله، فربحت تجارتهم. وترى أنّ لمفقود الأثر خصوصيّة مواساة السيّدة الزهراء عليها السلام، ممّا يخفّف أحزانها، ويجعلها ترضى بقضاء الله، على الرغم من صعوبة الفراق، فضلاً عن صعوبة الانتظار. وتعلن بيقين أنّ فهمها لحقيقة الموت، وانقلاب الجسد تراباً وبقاء روح الشهيد مع سيّد الشهداء عليه السلام، ينير قلبها، فتدرك الأجر الذي يناله في كلّ لحظة صبر، مع اشتداد الألم الناتج عن غياب الحبيب وجثمانه، فيشدّها قبره إليه، والذي يربطها به زيارات بثّ حزن ووجع شكوى، بعد معاينة وجع الفقد الأصعب، كأمّهات الشهداء كلّهنّ.
•الشهيد يوسف محمود ناجي(4) (حسين حجازي)
لا تزال والدة الشهيد يوسف، تعيش على أمل عودته حيّاً، على الرغم من مرور سنوات سبع على غيابه، وتأكيد استشهاده منذ سنة، فهي تحرص على زيارة ضريحه الرمزيّ، وتحادثه عبر رخام لا يغطّيه، مع انتظار مليء بالدموع، والتساؤل عنه: هل تُراه أكل طعاماً؟ ذاق شراباً؟ لعلّه موجوع أو بردان، أو لعلّه جريح ينزف أو أسير يتلوّى تحت سياط التعذيب؟!
تبوح أمّ يوسف بصعوبات تمرّ بها، حين تذكره عند تشييع أيّ شهيد؛ تخنقها العَبرة، ويمتد الانتظار بمقياس سنة لكلّ لحظة شوق.
•الشهيد حسين علي عطوي(5) (مالك الأشتر)
تلاحظ أمّ الشهيد "مالك" اختلافاً كبيراً بين مشاعر الأمّ التي شيّعت ولدها، وتلك التي لا تزال تنتظر عودته. فهذه التي عرفت باستشهاده، ولم تزفّه كسائر إخوانه الشهداء، تعاني إليه أشواقاً تستعر كلّما شاركت في تشييع شهيد، فتشعر أنّها تزفّه وتغرف لشهيدها دموع القلب مضاعفة باشتعال نيران الشوق، على أمل اللقاء، ولو كان اللقاء الأخير.
•الشهيد ثائر دياب الحاجّ دياب(6) (غريب)
لا تُخفي أمّ الشهيد "غريب" غصّتها الكبيرة كلّما شاهدت تشييعاً لشهيد؛ لأنّها حينها تتمنّى عودته، كي يحظى بأجمل عرس إلهيّ. وهي تداوم على زيارة أضرحة الشهداء(7)، متمنّية أن يكون لولدها ضريحٌ بينهم، تكلّمه، تهديه فاتحة الكتاب عن قُرب، يرافقها أطفاله، يوقدون على رخامه البارد شموع الوفاء، يخفّفون وطأة صقيع الرحيل. هي لا تزال تنتظره انتظار سحابة تمطر فوق تربة ظمأى تمطر عليها لترويها. وما يخفّف عنها، أنّ الزهراء عليها السلام تتولّاه، وأنّ له في غيابه عند الله درجة كبيرة. وهو لا يزال عند عائلته، سيّد كلّ حديث ومناسبة وسهرة تضمّهم جميعاً، تحتفي بمحضره صورة وذكرى. ويبقى السؤال عن موعد عودته من أيدي الظالمين، مفتوحاً على الاطمئنان، أنّ روحه عند ربّ العالمين الذي تحمده على كلّ شيء، يعينها على الصبر. كلمة منه لا تزال تتردّد في أعماق ذاكرتها، عندما عاد ذات نصرٍ جريحاً، وعاتبته عندما علمت أنّه أعطى سلاحه لرفاقه كي يؤمّنوا انسحابهم بسلام، موطِّناً نفسه على الأسر حيّاً: "فلتكن ثقتكِ بالله كبيرة يا أمّاه، فأنا بعينه التي لا تنام، أسيراً كنت أم جريحاً أم شهيداً". ومع يقينها أنّه لا نصر دون شهداء، فهي لا تزال تعاني لهيب الشوق الذي استعر في أعماقها منذ اللحظة الأولى لاستشهاده، ومعرفتها بهذا الحدث، وهي لا تظنّ أبداً أنّ عودته جثماناً، ستخفّف من لوعة أوجاعها.
والتتمّة في العدد القادم، بإذنه تعالى.
1.الشهيد إبراهيم محمّد شهاب (كميل)، استشهد في جنوب حلب - خلصة، تاريخ 16/6/2016م.
2.حوار بين الشهيد علي دقيق والشهيد إبراهيم شهاب:
- كميل، تحيّاتي إلك، نسيت إلّك، شفتك اليوم بمنامي إنّك مذبوح وإنّي أسير عند جبهة النصرة وذابحينك من الوريد للوريد .
- إنتو بدكن تقاتلوا وتعملوا حرب، بدكن تقوصوا وترموا صواريخ، واللي ضدكن بدو يتفرّج عليكن؟ طب ما هاي حرب، يعني يوم بتهجم، يوم بتتهاجم، يوم بتحاصر، يوم بتتحاصر، ويوم بتستشهد.
3.الشهيد علي شفيق دقيق (أمير)، استشهد في جنوب حلب - خلصة، تاريخ 16/6/2016م.
4.الشهيد يوسف محمود ناجي (حسين حجازي)، استشهد بتاريخ 23/11/2013م.
5.الشهيد حسين علي عطوي (مالك الأشتر)، استشهد في إدلب - جبل الأربعين، تاريخ 15/5/2015م.
6.الشهيد ثائر دياب الحاجّ دياب (غريب)، استشهد في حلب - رتلة، تاريخ 2/4/2016م.
7.ينتمي الشهيد "غريب" إلى عائلة قدّمت الكثير من الشهداء، ففي روضة الحوراء عليها السلام الشهيدان محمّد الحاجّ دياب ووالده حمزة الذي أصيب قبل شهادته، وعاد إلى عمله، ثمّ أصيب في تحرير الجرود، فاستشهد بعد إصابته بأسبوع، وكذلك عمّه الذي كان جريحاً لسنوات عدّة، ثمّ استشهد ودُفن إلى جوار شقيقه وابنه في روضة الحوراء عليها السلام.