آية الله جوادي الآملي
الخطاب القرآني جاء في قالب الجمع يدعو الناس إلى الاجتماع ويعتبر المجتمع مسؤولاً، وهو يعلم ويبين الآداب والسنن في المعاشرات الإجتماعية مما ينسجم مع كرامة الإنسان وتقويمه الأحسن. ولهذا فقد ذم كل صفات الانعزال وأثنى علي جميع فضائل الرحمة والوصل. ولم يوقع علي تأثير الاختلافات العرقية والإقليمية والزمانية ونظائرها إلا في حدود التعارف
﴿.. شعوباً وقبائل لتعارفوا﴾، وذم التفاخر وباهى بالذين يحاربونه ويتركون التعالي والتكبر وسائر المعاصي.
ولم يعتبر أن أدب العشرة محدود في إطار الأخوة الإسلامية فحسب، أو أنه لم يحي شؤون الأخوة والتساوي بقوله:
﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ فقط، بل أكّد على السلام والمحبة الإنسانية بين المجتمعات البشرية من خلال دعوته العالمية، ما لم يكن عند أي أحد أو فئة توجه نحو الفتنة أو الظلم، فينبغي التعامل معهم على أساس العدل والقسط والاحترام المتقابل:
﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون﴾ (الممتحنة - 8 - 9)
ومن حيث أن الإنسان قد خلق في ﴿أحسن تقويم﴾، وما يليق بتربيته هو التعامل الأحسن، لهذا قال الله تعالى: ﴿قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم﴾ (الإسراء - 53) ﴿قولوا للناس حسناً﴾ (البقرة - 83)
ولا ينحصر المقصود من قوله تعالى بمجرد القول اللفظي، بل مطلق السلوك والمعاشرة.
رغم أن دفع أي نوع من الهجوم على حدود الإسلام والمسلمين وطرد أي قسم من التخاصم وإفشال أي نوع من هجوم الأعداء الخارجين يعتبر لازماً وواجباً، لكن إذا حصل الاختلاف داخل مجتمع الإسلام واستطاع العدو أن ينفذ لا يجوز أن نحارب الأخ المسلم الذي يعد عدواً في الظاهر، بل يجب دفع العداوة معه والقضاء عليها. فدفع العدو ليس بالأمر الصعب بل إن إزالة العداوة وإعادة اللحمة والصداقة هو عمل الصالحين: ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾ (فصلت - 34) ولهذا فإن المجتمع الإسلامي كالأسرة الواحدة يدور على أساس المحبة والعطف، يصدح في أرجائه نداء
﴿وعاشروهن بالمعروف﴾ فالفضل والصلة تقوم على أساس الإحسان واللطف:﴿فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان﴾.
والإحسان للكبار بأمر: ﴿وإما يبلغن عندك الكبر أحدهم أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً﴾ يجري دائماً، لأن مسلسل العطف والرحمة للكبار يرجع إلى مرحلة حياة الشباب، ويجعلهم مشمولين للعاطفة العاقلة. أما أدب المعاشرة الحقوقية في المجتمع الإنساني فهو على أساس القسط المتساوي والعدل المتقابل. لهذا في عين الأمر بالعدل ينهى عن الظلم، وفي صلب النهي عن الظلم ينهي عن الإنظلام، ويمكن استنباط هذا الإهتمام من متون آيات القرآن الكريم، لأن بغض الآيات تعتبر أن رسالة جميع الأنبياء هي القيام بالقسط والعدل:
﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ (الحديد - 25) وبعض الآيات تؤكد على أن إجراء العدل لن يتيسر بدون التجهيز الكامل والإستعداد التام، ولهذا فإن مجرد القيام لا يكفي بل يلزم القوّام:
﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط﴾ (المائدة - 23) ﴿أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله﴾ (النساء - 135)
وطائفة أخرى من الآيات تتحدث عن الجانب السلبي فتنهى عن الظلم في مقابل الأمر بالعدل، ولا تفرّق بين التسلط والإذعان للسلطة، فهي تذم قبول الظلم مثل ذم الظلم وتنهى عنهما:
﴿لا تظِلمون ولا تُظلَمون﴾ (البقرة - 279).
يعتبر القرآن الكريم أن اختلاف الاستعدادات هو ساحة للإمتحان ووسيلة للتوزيع العادل للأعمال الإجتماعية والتسخير المتقابل لأفراد المجتمع، ويطرد أي نوع من التحقير وهتك الحيثية أو الإستغلال والشره:﴿هو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم﴾ (الأنعام - 165) ﴿أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون﴾ (الزخرف - 32) ومن خلال الآيات الكريمة يتضح أن أي نوع من المواهب الإلهية ليس إلا امتحاناً للعباد، وهو ليس تكريماً لبعض أو تحقيراً للفاقدين، والهدف منه هو تقسيم الوظائف الإجتماعية بالعدل، والآية الشريفة:
﴿يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن﴾ (الحجرات - 11) تقف مقابل أي تحقير أو تفاخر، وتوجب على الجميع حفظ الإحترام المتبادل حتى يصبح المجتمع أرضية صالحة لتقبل المدنية الفاضلة في ظل تأمين الكرامة الإنسانية. إن حسن معاشرة أي قاطن في المدينة الفاضلة يكون في مقابل مسؤوليته. لهذا فإن وظيفة المسؤولين المهمة في المجتمع هي أكبر من الآخرين، وهكذا نجد أن الأمر جاء إلى موسى الكليم وهارون عليهما السلام بقوله تعالى: ﴿قولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى﴾ (طه - 44) رغم أن مصير فرعون وهامان بسوء إختيارهما كان:
﴿فغشيهم من اليم ما غشيهم﴾ (طه - 78).
وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتواضع والرحمة واللين:
﴿فبما رحمة من ربك لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك﴾ (آل عمران - 159)
وكذلك كانت الشورى تكريماً لآراء الآخرين ووسيلة جيدة لوحدة المجتمع واستقطاب الطاقات وإيجاد الإنسجام بين أصحاب الرأي وإنضاجاً للقرارات النهائية. فسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت إمتثالاً لقوله تعالى: ﴿واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين﴾(الشعراء - 215) وذلك كله إلى جانب القاطعية والحزم والشدة مع الطغاة:
﴿فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون﴾ إن خفض الجناح في القرآن قد يكون المقصود منه إظهار الصغر والطاعة، كما هو مطلوب من الإبن مقابل والده:
﴿واخفض لهما جناح الذل من الرحمة﴾ (الإسراء - 25)
وأحياناً يكون علامة على الرأفة والشفقة كما هو مطلوب من القائد الرباني.
من الرسائل الأساسية للقرآن في تحسين أدب العشرة تأسيس المجتمع المتمدن والمتطور، والأمر بحسن الظن بمثل هذا النوع من المجتمعات. وإن كان حسن الظن في المجتمع الفاسد ليس العمل الأول لكن في المجتمع الصالح يجب أن يحكم حسن الظن بالنسبة للآخرين: ﴿واجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم﴾ (الحجرات - 12)