لقاء مع الجريح المجاهد محمّد حسن شهاب (علي رضا)
حنان الموسويّ
جدار المدرسة الضخم لم يمنع طيور الفناء من التسلّل إليها، فتراقصت أحجاره العنيدة حين هزّ الانفجار المكان. اندفع الشهيد "صادق ميس" ليعاين ما يحدث. رمق من أعلى السلّم قدمَين ممدّدتَين استسلمتا للنوم قرب باب المدرسة، شُبّه له أنّه قد رآهما قبلاً، إنّه "علي رضا"! كان في ضيافته صباحاً. وثب راكضاً إليه. سحبه دون أن يراعي جُرح مسافة الزمن، وأنّه ارتدى ثوب الخطر بإيثاره ذاك. صوت قذيفة الهاون 60 جذبه، فهرع لنجدة صديقه، كلّ همّه أن لا تقع قذيفةٌ أخرى وتشتِّت الجسد أكثر. "صادق ميس" حصد ما نضج من شوق في المهجة، ولم يأبه إن كان رقيُّ روحه سيُهلِكُ جسده. نداءات "يا زهراء" و"الله أكبر" علت في المكان. اجتمع تلاميذ صفّ العشق جميعهم. وبخطواتٍ شهيّة تستدعي الوحي حملوه، الشهيد "صادق ميس" عبر به النهر، والشهيد "أبو زهراء" نقله إلى الإسعاف، وهو كطفل الدهشة الأولى، لا يعي ما حدث، يفقد وعيه تارةً ويعود إليه أخرى.
•المَهَمَّة
تنفيذاً لقرار الدخول إلى مدينة القصير، كان علينا تطهير ريفها أوّلاً. ولتحقيق ذلك، وجب السيطرة على تلّة "مندو" المشرفة على المنطقة برمّتها.
فجر الخميس في 11/4/2013م بدأ الهجوم. مجموعات ثلاثة تقدّمت. اجتزنا النهر عند الساعة العاشرة بعد أن انجلى ضبابٌ ربانيٌّ غطّى المكان. كانت المواجهات محتدمةً مع الجيش الحرّ، على امتداد الحدود المزنّرة بالنار، حتّى وصلنا إلى بطن تلّة "مندو". وهناك، انقسمنا كلّ مجموعة على حدة. توجّهتُ والمجاهدين إلى مدرسةٍ مواجهةٍ للتلّ، قسّمنا المهام ونوبات الحرس فيما بيننا، ومرّت ليلةٌ يحدوها خطر من كلِّ اتّجاه.
•معجزة البقاء
صبيحة يوم الجمعة، هدأت المناوشات والرمايات. طلب منّي مسؤول المجموعة الشهيد "ساجد الشهابيّة" التوجّه إلى الطابق الأوّل حيث القنّاص الشهيد "صادق ميس". كانت مهمّتي أن أناوب عنه، وما إن عبرت الملعب، حتّى رمى المسلّحون قذيفة هاون 60 تبعد عنّي مسافة مترين فقط، كان حضنها لاذعاً! لم أدرِ بعدها إن كنت واقفاً، ممدّداً، أم حتّى منكبّاً على وجهي. صرت كظلٍّ يابسٍ يبحث عن حياة من لونٍ آخر، بعد أن نشَرت الأخيرة شظاياها كلّها داخل جسدي. ضجّ المكان بخطى المجاهدين قربي، أثارت جراحي هلعهم عليّ.
نار شظايا تلك القذيفة عشقت جسمي، أكلت عينَيّ، فتناثرت اليُمنى، وباقي الشظايا اقتحمت دماغي ومكثت داخله، وقطعت عصب عيني اليسرى فأطفأتها. وأمّا عن شظيّة هاربة اتّكأت على وريدي وفَرَت نصفه، فقد تركت حرارة الحمّى تعضّ القلب شوقاً إلى الوصال، وأبقت أخرى حنكي مفتوحاً ينساب الهواء ودمه فيه بحريّة. ولأنّ معجم المعجزات لا صوت له، درع الـM18 الذي كنت أرتديه، حمى منطقة الصدر والبطن، ودرأ عن قلبي الأذى، لكنّه حمل في جعبته مقنبلاتٍ سبعة، لو أنّها انفجرت لاستحلتُ أشلاء لا تُرى! توزّعت باقي الشظايا في قدميّ؛ فالعصب الحسّي الممتدّ من الخاصرة وحتّى ركبتي اليمنى تآكل جرّاء شظيّة، وكسرت أخرى عظم القدم اليسرى، ما سبّب لي أوجاعاً لا وصف لها.
•جرحٌ ورسالة
خضعت في مستشفى لثلاث عمليّات جراحيّة متتالية. اثنتان وسبعون ساعة عليّ اجتيازها كي أبقى، وعلى النزيف التوقّف خلالها. تحسّس الأطبّاء وأهلي الخوف أثناءها، ومكثت في المشفى مدّة أربعين يوماً. كانت الحروف ترتجف على أيدي والدي ووالدتي قبل لسانيهما. صبرهما أطلّ على أرقي، فاطمأنّ.
كنت مع ألمي وحيداً، حتّى جاءني من حمل إليّ رسالة من الأمين على الدماء، كشمسٍ من وراء ليلٍ تبلسم حرقتي، مفادها أنّ المكان الذي كنّا نقاتل فيه هو ككربلاء الإمام الحسين عليه السلام. ثوب الكلام بات ضيّقاً، تلك الحروف شدّت عزيمتي، وأنستني سيل الأوجاع الذي عانيته، وشعرت بالفخر أنّي جُرِحت في مكانٍ يرضاه الله، ولإحياء دين الله، ودفاعاً عن حرائر رسوله. حتّى العمليّات الجراحيّة التي أجريتها طيلة السنين فيما بعد، كانت برداً وسلاماً وطِيباً.
•نذرٌ ومواساة
أثناء زيارتي لمرقد أبي الفضل العبّاس عليه السلام، حضر القلب والعقل والروح، فكان الصمت تسبيحاً وجوارحي فمه، سهم العين وعمود الرأس وتلقّي الأرض دون كفّين، وصلني بعض شعاعه حين أُصبت، مرّ في ضلوعي مرور الجياد. فزادي شحيحٌ أمام بحر تضحياته، هذا ما استطعت تقديمه، عينَيَّ فقط، لكن لو أنّ القوّة أُعيدت لي مع البصر، لما انكفأت لحظة عن الجهاد، وما تسميتي لابني بـ(أبي الفضل)، إلّا وفاءً لنذرٍ بيني وبين المولى عليه السلام ولإحياء اسمه الشريف.
•جراح مخيفة
بعد الإصابة، كان ورم وجهي مرعباً، خصوصاً لطفلةٍ اعتادت أن تراه جميلاً وتلمسه بأناملها، فاختلفت الصورة فجأة أمام عينَيها؛ فقد امتلأت جروحاً وندوباً. لذلك كانت ابنتي فاطمة تخشى الاقتراب منّي، فكنت أخبّئ لها السكاكر تحت الوسادة وأدعوها إلى تناولها إن ما قبلت بوِدّي، حتّى اعتادت فيما بعد وتقبّلتني. وعيها وكمَّ العطف الذي لاح لاحقاً كان لافتاً، فأثناء زيارتي للمراقد المقدّسة في العراق، كان جلّ تفكيرها كيف أتولّى إنجاز أموري، ومن يساعدني. ذاك الأمر ترك داخلي بالغ الأثر.
•قربان لأهل البيت عليهم السلام
الإصابة هي اللغة الكافية والأنقى، التي توضح أنّنا قاتلنا جسديّاً وروحيّاً تحت شعار "لبيكِ يا زينب". قارورة الدماء التي سُكِبت في سبيل حماية تلك العظيمة، هي قربانٌ يسير لا يُحتسب، كما عينَيَّ الميّتتَين، هما مواساة للإمام الحسين عليه السلام ولأهل بيته عليهم السلام في كربلاء. لا شيء أعظم من أن يبتلي الله عباده ويكافئهم بعد ذلك!
فقد ابتلاني الله بلاءً جميلاً، فالحمد له أن نظر إليَّ واختار أن أقدّم جزءاً منّي أواسي به أهل البيت عليهم السلام يوم القيامة. فقدت بصري، فأهداني بصيرةً، فالشكر لكرمه. الإصابة لا تعصمني من الذنوب، فما زلت في دار البلاء؛ لذلك عليّ مضاعفة الجهد للوصول إلى مقام النور، الذي وعد الله به عباده المجاهدين.
•الصوت جهاد
نحن الجرحى كرسل للناس، نملأ الجمال بصوت الله من خلال الموالد، وجلسات القرآن الكريم، والندبيّات. وقد أتيح لي الانضمام إلى فرقة "جراح" للخروج عن صمت الجرح البليغ وإيحائه، لتكون اللسان الناطق لكلّ جريح. وهي تكريم من الله عزّ وجلّ بالعودة إلى الميدان من جديد بشكل آخر، ورفع سلاح الصوت والكلمة في وجه الأعداء.
•بَوحٌ من القلب
باسم من قُطِعت يداه وقدماه، وفقد أجزاءً من جسده، أقول لسماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله): "يا سيّدي، لو بقي فينا لسان ينطق، لما نطق إلّا بالبيعة للحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف ولكم. كما عهدتنا سنبقى ما دامت هذه الأرواح في أجسادنا". الجرحى هم رسالة للناس، وعلى الرغم من الأوجاع نحن باقون على النهج الحسينيّ الأصيل في حزب الله. فهذه الإصابات محنة يُمتحنُ بها الجريح في الدنيا، ليثاب عليها في الآخرة، فتكون صراط العبور.
الاسم: محمّد حسن شهاب.
الاسم الجهادي: علي رضا.
تاريخ الولادة: 22/12/1988م.
مكان الإصابة وتاريخها: القصير- تلّة مندو 13/4/2013م.
نوع الإصابة: كفيف.