تحقيق: غدير مطر
هي النور الذي يرافق الكلّ من أولى خطواته؛ الصغير يعرفها أمّاً حنوناً، يتوسّل بها عند انكساره، والكبير ينظر إلى رأفتها حرزاً يقيه صعوبات الحياة. الكلّ عاجز عن وصفها، تخونه كلماته، فيتلعثم أمام عظمتها؛ ليحيل التعبير إلى مَن له أحقيّة الوصف، من رأى فيها "هبة إلهيّة وعطيّة ربانيّة"، أبيها رسول اللّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، صادق الكلام، وفاطمة ابنته التي أكّد أنّ من غضبت عليه، فقد غضب اللّه عليه.
بنداء "يا زهراء"
هم أكثر من يستحقّون الكلام عن إخلاصهم لها، هم ثلّة حيدريّة فاطميّة مصطفاة من طهر آل البيت عليهم السلام، يقدّمون أغلى ما لديهم عربون عشق لمولاتهم، وفداءً لنهجٍ حاربت لأجله حتّى انقطاع النفس. عند اشتداد النزال، يصرخون باسمها، حتّى آخر لحظات حياتهم، يرونها برداً وسلاماً، تُذلّل بذكرها الصعاب، وكأنّ مولاتهم تمدّهم بشجاعة وصلابة تذيب الجبال. عن أعلى مراحل الحبّ وتجلّياته المحيطة بالمجاهد في الجبهة، سواء كان في لحظات الجهاد أو الشهادة، يحدّثنا معدّ حلقات من وثائقي "أسرار التحرير الثاني" أحمد بزّي، ليصف حالة المجاهدين عند ندائهم (يا زهراء): "بوصولهم إلى أعلى مراحل الصفاء والقرب والجذب، بالتالي، لا شرح لذلك الفعل، إلّا أنّه ينبع من أيديولوجيّة وعقيدة راسخة، في أبهى حلل التجلّي والحبّ والجمال الحقيقيّ، وما أجمل النداء باسمها!". يعيد إلينا مشاهد من الحلقة السابعة حُفرت في قلوبنا، لأحد المجاهدين الذي "يغبط صديقه المستشهد بين يديه على لحظة لقائه بأمّه الزهراء عليها السلام، وكذلك في مشهد آخر لشهيد يستجمع كلّ قواه في لحظاته الأخيرة ليعطّر ثغره للمرّة الأخيرة بذكر مولاته فاطمة عليها السلام ".
وكم أنّ قربهم منها، يحدوهم لينادوها بـ"أمّنا"! ليؤكّد بزّي أنّ "هذا النداء، وهذا الجوّ العاطفيّ، هو نتاج فكر وثقافة واسعة، يجب من خلالها معرفة حقيقة هؤلاء المجاهدين وخلفيّة انطلاقتهم". لا بدّ من ذكر أحلام الجريح نوح هدلا، الذي رأى السيّدة الزهراء عليها السلام ثلاث مرّات تبشّره بجراحه. لم يعلم مغزى الإشارات إلّا لحظة إصابته، نادى باسمها بأعلى صوته: "أمّاه يا زهراء أغيثيني"، يروي: "في تلك اللّحظة لم أشعر بالألم، شعرت بحضورها أمّاً حنوناً عطوفاً، وأنّ بشارتها لي كأنّني حظيت بشرف مواساتها بجراح أبنائها الشهداء الأولياء، فتقبّلتُ الجراح بعزّة. أتمنّى أن لا تتركني أمّي الزهراء عليها السلام، فأنا من دونها عاجزٌ بائس".
عشق الشهداء لسيّدتهم عليها السلام
في محضر عوائل الشهداء تخجل الحروف. حكايات عزّ رُسمت معالمها بقاني أحبّائهم. عن الشهيد علي يونس الذي "عشق السيّدة فاطمة عليها السلام إلى حدّ البكاء عند ذكر اسمها"، تخبرنا شقيقته سارة: "كانت آخر وصاياه لزوجته قبل خروجه من منزله آخر مرّة، المواظبة على تسبيح الزهراء عليها السلام "، وكيف لا نلمس عشقه لمولاته وهو من سمّى ابنته على اسمها، موصياً إيّاها بدمعة توسّل: "فاطمة، مهجة قلبي وروحي، كوني حاملة لهذا الاسم".
وعن الشهيد حسين أمهز، تُحدّثنا زوجته ساجدة: "حلّفته بضلع السيّدة فاطمة عليها السلام أن يكلّمني للمرّة الأخيرة، كان مسجّى على نعشه الملائكيّ، فاستجاب لي وفتح عينَيه المغرورقتَين بالدموع لذكر أمّه الزهراء عليها السلام ".
أمّا فاطمة الجوهريّ ابنة الشهيد محمّد، فلا تنسى قول السيّدة فاطمة عليها السلام عن فَقد أبيها: "يا أبي، أخشى الضيعة بعدك"، وتضيف: "كلّما تذكّرت مظلوميّة يُتمي وفَقد والدي، تأسّيت بالزهراء عليها السلام ".
يطول الكلام، والكلّ يعرف علاقة الشهيد السيّد عباس الموسويّ (رض) وزوجته أمّ ياسر بالسيّدة الزهراء عليها السلام، "كان والدي يكنّيني بأمّ الحسنين، وأنا اسمي بتول"، تقول بتول الموسويّ، وتضيف: "لن أستفيض بالكلام عن كرم والدتي بالضيافة، التي تردّ سؤال من يتعجّب لفعلها أن يسأل جدّتها فاطمة عليها السلام ". بعطرها الفوّاح من الجنّة، حضرت السيّدة فاطمة عليها السلام في تشييع الشهيد محمّد مظلوم، تنفّست زوجته إيمان عبقها الطاهر، وشعرت بقربها "مواسية، لإيماني بحضورها التشييع، صبرت أمامها خجلاً من مصابها".
هبة إلهيّة
ترى (حوراء. إ) أنّ "السيّدة فاطمة تمثّل نموذجاً عمليّاً ينبغي للجميع الاقتداء به، فهي مصداق ومثال تامّ وكامل، فيها تجلّى الجمال الواقعيّ الحقيقيّ"، مؤكّدة أنّها "بشخصيّتها الملكوتيّة، كان نمط حياتها تجسيداً للعديد من الجوانب المعرفيّة والتربويّة...".
يُعرّفون بها بخجل، فكيف لهم الحديث عمَّن بعظمتها تخطّت معالم الكلام، هي "أمّ ومرشدة" حظيت بمكانة عميقة في قلوب محبّيها، تناديها (كوثر. م) لحظة انكسارها: "يا زهراء! خذي بيدي، فأشعر بها تمسح بكفّيها على قلبي، بلسماً فريداً لا أملك أنجع منه".
يرى الشيخ جعفر خير بيك في "تعلّق الناس بالسيّدة فاطمة عليها السلام تعلّقاً كماليّاً، اتّخذ منحى العاطفة"، مضيفاً: "السيّدة الزهراء تمثّل قلب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، أي قلب هذا الدين، والباب الموصل إلى رضى الله، هي نبض من نبضات النبوّة، وسرّ من أسرارها". كما يؤكّد سماحة الشيخ جعفر على جانب عاطفيّ عندها عليها السلام، حتّى عرفها الناس بقلوبهم، وشكّلت لهم أيقونة مقدّسة، بما تحمله من عاطفة وإرث نبويّ.
الزهراء قدوتي
كثيرة هي لمساتها في قصص من قصدناهم للحديث عن علاقتهم بها عليها السلام. لن تسعها السطور، لكنّ اللافت ما تركته من أثر عميق في نفوسهم حتّى باتت "سيّدة الجهات بلا بوصلة".
"أمّي فاطمة عليها السلام ؛ فأنا فقدت أمّي منذ ولادتي، وعرفتها في مولاتي"، بهذه الكلمات تختصر (فاطمة. ي) قّصة حياتها، وتضيف: "أضعت طريقي في البداية، لكن برعاية سيّدتي، عدت إلى رشدي، وها أنا ألبس عباءة الزهراء عليها السلام خِدراً معطّراً برائحة الجنّة الفاطميّة، وتخلّيت عن كامل تعلّقاتي الدنيويّة الزهيدة من أجل الوصول إليها". تشاركها (زينب. ع) فحوى القصّة، بنكهة أخرى، فبين سطور قصّتها تاهت حتّى حظيت "بنقاشٍ محتدم عن سرّ البتول"، راحت تبحث كالثكلى عمّا يوصلها إلى أوّل خيوط الهداية، وكان ذلك "السرّ الذي أعادني إلى سكّة الحياة ومعناها الحقيقيّ، سرّ الولاية، الذي دافعت وحاربت لأجله بإخفاء قبرها، لتعلّمنا بحدث تاريخيّ هامّ جدّاً، يمتدّ لآخر الدهر".
نعرج مع (مريم. م) إلى عالم فاطميّ آخر، حيث كانت البتول عليها السلام "المنبّهة والمحذّرة، فقد رأيتها في المنام مرّة تؤنّبني لتركي الصلاة، فلم تسمح لي برؤية وجهها في الحلم، والتحدّث إليها، نبّهتني على تأديتها في أوّل وقتها، منذ ذلك الحين؛ حرصت على ذلك خوفاً من إشاحة السيّدة فاطمة عليها السلام وجهها عنّي مرّة أخرى، فهي قدوتي في جميع خطواتي. أرى فيها عشقاً سرمديّاً تخطّى حدود الوصف المادّيّ، نعم البداية كانت الحبّ، والنهاية كانت التزام أوامر الله".
السيّــدة فاطـمـة "المحتسبـة، المتفانية لرفع راية الإسلام، هي أكثر من يستحق الاقتداء به في هذه الدنيا، لننال شفاعتها وقربها في الآخرة" تؤكّد (زينب. س).
وهنا، يربط الشيخ جعفر خير بيك بين "معرفة السيّدة فاطمة عليها السلام الفطريّة الإجماليّة؛ أي المعرفة القلبيّة، وبين التمسّك بنهجها ونهج أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فترى الناس يتسابقون لطاعة اللّه ببركات الزهراء عليها السلام ؛ لأنّ إذا ما عُرف اللّه بالقلوب تحقّقت الطاعة الجميلة، وهي أقوى المعارف! إذ إنّ المُحبّ لمن أحبّ مطيعُ".
علّمتني أمّي فاطمة عليها السلام
نترك للأفعال الكلام في حضرة التأسّي بأمّنا فاطمة عليها السلام: (ندى. ص) لمست "بدعائها للجار والأقارب قبل نفسها" علماً أينع في داخلها ثمراً من غرس فاطميّ في قلبها، و(ريان. س) اختارت "تقديم ثوب زفافها لمن يحتاج إليه، تأسّياً بما فعلته السيّدة فاطمة عليها السلام ليلة زفافها". وترى (جنان. ع) في "صلاة الاستغاثة بالبتول، طمأنينة وأنساً، وفي قول: (يا مولاتي يا فاطمة أغيثيني)، استجابة سريعة تطفئ لهيب الروح".
أسميتها "فاطمة"
الكلّ يعرف قدسيّة اسم فاطمة، ويجمع كلّ من اختار لابنته هذا الاسم على "احترام صاحبته وتكريمها، والامتثال لكامل معايير اسمها وحقوقه".
هنا، يؤكّد الشيخ جعفر أنّه "لا يكاد يخلو بيت من بيوت المؤمنين من اسم فاطمة عليها السلام أو واحد من ألقابها، للرواية المنتشرة بين الناس والمتداولة عن زيارة الملائكة ودخول البركة والسرور على تلك المنازل ببركة اسم فاطمة"، مشيراً إلى "سؤال الكثيرين له عن حقوق(1) هذا الاسم، لشعورهم بقداسة الاسم المستقاة من قداسة صاحبته عليها السلام، فيتملّكهم الخوف والرهبة من إهانة ابنتهم فاطمة أو التعرّض لها بأيّ سوء".
من أجمل حكايا الحبّ الفاطميّ وتجلّياته، اختيار الشيخ عمّار جواد اسم فاطمة لبناته الثلاث: "سمّيتهنّ فاطمة الحوراء، وفاطمة الطاهرة، وفاطمة الزهراء.. فبعد مضيّ السنين أدركت أنّهنّ واحدة سرت في وجودي، باسمها ورسمها ومحيّاها، هي مولاتي فاطمة عليها السلام".
مع كلّ تلك القلوب، مهما اختلفت الألقاب، تبقى فاطمة عليها السلام سرّاً مستودعاً، لا نعرف كيف يأسر القلب، ليشعّ نوراً.