تحقيق: فاطمة خشّاب درويش
لأنّ فيروس كورونا "مش مزحة"، نضع بين أيديكم هذا التحقيق الذي يحكي يوميّات بعض المصابين، نستمع إلى أوجاعهم الصامتة، ونتعرّف على أوضاعهم النفسيّة خلال فترة الحجر الصحيّ. نرصد تلك الصرخات التي أطلقوها وجعاً من أعماق قلوبهم وهم في الغرف الخاوية من الأهل والأصدقاء، نحكي فصول تلك المعركة الصامتة مع ذاك العدوّ الخفيّ الذي لم يتعرّفوا عليه من قبل.
•التجربة الأولى:
- لم أستهتر بكورونا
منذ بداية ظهور فيروس "كورونا" في لبنان، شعرت أنّ عليّ أن أتّخذ بعض الإجراءات الوقائيّة لحماية عائلتي ونفسي، فأنا أمّ لأربعة أولاد، أكبرهم في سنّ العاشرة. أخذت قراراً انطلاقاً من واجبي الشرعيّ تُجاه كلّ من أحبّ، أن أتوقّف عن القيام بالزيارات الاجتماعيّة والعائليّة، وفرضت نظاماً من التعقيم على زوجي وأولادي عند الدخول والخروج من المنزل. كانت الأمور تسير على ما يرام، ولكن فجأةً حدث ما لم يكن في الحسبان. عندما ذهبت لتقديم واجب العزاء بموت أحد الأقارب في ضيعتي، وأنا مسلّحة بكِمامتي التي لا تفارقني أبداً. التزمت حينها بالتباعد الاجتماعيّ، ولم أصافح أو أقبّل أحداً. عندما انتهت مراسم العزاء، كنت أهمّ بصعود السيّارة، فالتقيت بصديقة قديمة لم أرها منذ ما يقارب العشر سنوات. دفعتني الحماسة إلى معانقتها، وهي لم تكن ترتدي كِمامة. أنزلتُ كِمامتي عن وجهي وقبّلتها بحرارة! نعم، صافحتها وتحدّثنا لبعض الوقت. أذكر أنّني في تلك الأثناء نسيت "كورونا" وكلّ تلك الإجراءات التي أتشدّد في تطبيقها مع الأهل والأولاد.
عدت إلى بيتي وكانت الأمور على ما يرام. بعد يومين فقط، بدأت أشعر بالتعب، ولاحظت أنّ حرارة جسمي بدأت ترتفع. أخذت بعض مخفّضات الحرارة، وتعاطيت مع الأمر بطريقة عاديّة جدّاً. في اليوم الثالث، ازداد الوضع سوءاً. تلقّيت حينها اتّصالاً من والدتي أخبرتني فيه أنّ صديقتي اكتشفت أنّها مصابة بكورونا، وأنّ البلديّة طلبت من المخالطين لها حجر أنفسهم ومراقبة وضعهم الصحيّ. لم تكن لديّ الجرأة أن أخبر والدتي المسنّة بما جرى معي، اكتفيت بالصمت. وفي لحظات معدودة، استرجعت شريط ما حدث معي خلال لقائها. لم أحتج إلى الكثير من الوقت حتّى أعرف أنّني وقعت في الفخّ، الذي يهدّدني وأولادي وزوجي!
دخلت إلى غرفتي، أغلقت الباب بهدوء، جلست على سريري، وبدأت أفكّر: ماذا عليّ أن أفعل؟ من سيهتمّ بأولادي الصغار؟ كيف يمكن أن أواجه الأمر؟ اتّصلت بزوجي وأخبرته بما جرى، وقرّرنا أن نتعاون لخوض المعركة التي لم نتعرّف على فصولها من قبل.
برزت حينها مشكلة رعاية الأولاد وتأمين متطلّباتهم الأساسيّة، الأمر الذي دفع زوجي إلى أخذ إجازة من عمله. أجرينا فحص "كورونا" لجميع أفراد العائلة، وتأكّدت أنّي كنت المصابة الوحيدة، بحمد الله. أصبحت حبيسة غرفتي، والمشكلة أنّه لم يكن لدينا مكان منفصل للحجر.
في اليوم الخامس، بدأ وضعي الصحيّ يتدهور، وبدأت أشعر بضيق في التنفّس. كنت أنظر حينها إلى جدران غرفتي فأشعر أنّها تضغط عليّ. التزمت بالتعليمات الصحيّة لجهة تناول الأدوية المسكّنة والفيتامينات، ولكنّ الأمور لم تكن بهذه السهولة. وما زاد الأمور صعوبة، هي الوحدة التي كانت تقتلني يوميّاً. فلا أستطيع أن أرى أولادي الذين كانوا يعيشون معي التجربة بتفاصيلها من وراء الجدران، كانوا يقدّمون لي الطعام من خلف الباب بأطباق بلاستيكيّة، فيما كنت أسمع دعواتهم لي بالشفاء العاجل.
مرّ الأسبوع الأوّل، وفي منتصف الأسبوع الثاني، زادت العوارض حدّةً، وشعرت أنّي اقتربت من الموت. أنهكني التعب، ولم أعد أقوى على النهوض من السرير. كنت أتواصل مع عائلتي من خلال (video call)، أذكر أنّني لم أكن أقوى حتّى على حمل الهاتف لأتواصل معهم.
بعد مرور أسبوعين، خفّت العوارض قليلاً. أجريت فحص كورونا مجدّداً، ولكنّه كان لا يزال إيجابيّاً. انتظرت بعدها أسبوعاً آخر. وبعد مرور 25 يوماً، بدأت حالتي بالتحسّن. أجريت الفحص مرّة أخرى، ليتبيّن أنّني شُفيت من الفيروس الفتّاك.
عندما سمعت بنتيجة الفحص، فاضت الدموع من عينيّ إيذاناً بالانتصار على الفيروس الخفيّ. لم أعرف ماذا أفعل. هويت أرضاً وسجدت شكراً لله الذي منّ عليّ بالشفاء حتّى أعود لعائلتي وأولادي، لقد منحني الله فرصة الحياة من جديد.
•التجربة الثانية: كورونا ليست كذبة
لم أعتقد يوماً منذ بدأ الحديث عن "كورونا" أنّها حقيقة، هل يعقل لفيروس لا يُرى أن يقتل ويفتك بملايين البشر؟! كورونا بالنسبة إليّ كذبة لا محالة!
لم أرتدِ كِمامة ولم أغرق في وهم غسل اليدَين كلّما لمست شيئاً. كنت أعيش لأكثر من سبعة أشهر "بدون قيود ووجع رأس"، حتّى إنّني لم أصادف حالةً واحدة أصيبت بكورونا، تدفعني إلى أن أغيّر قناعاتي أو أبدّل من آرائي.
أنا شابّ، عمري 28 سنة، غير متزوّج، أعيش مع والدتي، أعمل في شركة محاسبة، وألتقي يوميّاً بعشرات الزبائن، وعلى الرغم من ذلك لم أصب بكورونا! فعن أيّ فيروس يتحدّثون؟
منذ شهرين تقريباً، شعرت الوالدة التي تبلغ من العمر 65 عاماً، أنّها تعاني من ضعف في جسدها، وبدأت حرارتها بالارتفاع. سارعت إلى أخذ مخفّضات الحرارة، ولكنّ الأمور زادت تعقيداً عندما بدأت تشعر بضيق في التنفّس. طلب الطبيب المعالج نقلها إلى المستشفى. وعندما وصلنا إلى الطوارئ، أُجري لها فحص "كورونا" كإجراء طبيعيّ لأيّ شخص يدخل المستشفى، وكانت المفاجأة! أمّي مصابة بكورونا! لم تخرج من البيت أبداً لأنّها مقعدة، وهي تعاني من مشاكل في القلب والضغط والسكّري. وعلى أثر دخولنا المستشفى طُلب منّي إجراء الفحص أيضاً؛ ليتبيّن أنّني مصاب بكورونا، دون أن تظهر عليّ أيّ عوارض للمرض.
كان الخبر كالصاعقة، ليس خوفاً من "كورونا" الذي لم أعتقد بوجوده، والذي لن يقوى على جسدي، بل خوفاً على والدتي التي تعاني من نقص في المناعة، وأمراض مزمنة عديدة.
طلبت منّي إدارة المستشفى مغادرتها، فوجودي لا حاجة له بعد أن أمضيت ليلتي أمام بابها. أدخلت أمّي العناية الفائقة، والأمور متروكة بيد الله.
عدت إلى البيت، والدموع لم تفارق عينيّ منذ أن عرفت أنّ والدتي في خطر، ماذا فعلت بها؟ أنا من نقل لها العدوى! لماذا لم تظهر العوارض عليّ؟ كيف لي أن أعرف أنّي مصاب؟ ما كنت أتصوّر أن أكون سبباً في أذيّة أقرب الناس إليّ!
في صبيحة اليوم التالي، بينما كنت غافياً على الأريكة من تعبي بعد سهري طوال الليل بين دعاء وسجود، رنّ جرس الهاتف، وإذ برقم المستشفى يظهر على الشاشة، شعرت بقبضة قويّة تعصر قلبي. تلقّيت الاتّصال وكان الخبر الصادم: "توفيت الحاجّة أمّ محمّد منذ نصف ساعة، الله يرحمها"!
•التجربة الثالثة: كفى مكابرةً!
ربّما هي المكابرة أو الرغبة في عدم الاعتراف بالخطأ. والحقيقة المرّة أنني كنت خائفاً من فقدان عملي، الذي انتظرته أكثر من سنة، وأنا عاطل عن العمل.
تبيّن أنّ أختي، التي تعمل ممرّضة في قسم الكورونا، تعاني من هذا الفيروس. خضع أهلي للفحص بطبيعة الحال، وعملت أختي على حجر نفسها في منزلنا في القرية. أمّا أنا، فرفضت إجراء الفحص؛ لأنّني لا أعاني من أيّة عوارض!
مرّ أسبوع والأمور كانت على ما يرام. كنت أذهب إلى عملي بشكلٍ طبيعيّ. أخفيت حقيقة إصابة أختي بكورونا عن زملائي حتّى لا يخافوا منّي. في الوقت المحدّد لتناول الفطور، كنت أجلس مع زملائي في "الكافيتيريا" كلّ يوم، نتحدّث كالعادة عن كورونا والإصابات الجديدة. لم أشعر حينها أنّني أقترف خطأً، فالإصابة ليست حتميّةً، وأنا لن أكون ضحيّة فيروس.
في إحدى الجلسات مع زملائي، صرّح أحدهم أنّه يشعر بفقدان حاسّة التذوّق، متسائلاً: هل من الممكن أن أكون مصاباً؟! شعرت لبرهة بهول ما قاله، فأنا منذ أيّام عدّة ألاحظ أنّني لا أشعر بمذاق الأطعمة والأشربة! ثمّ أردف إنّه سيخضع لفحص كورونا مع زوجته، على الرغم من أنّه لم يخالط أحداً منذ فترة.
في هذه اللحظات، فكّرت: هل من الممكن أن أكون مصاباً؟ وماذا لو نقلتُ العدوى لزملائي الخمسة في العمل، الذين أشاركهم الفطور يوميّاً؟ وهذا ما حصل، إذ تبيّن أنّ الجميع مصاب بكورونا، وعمر العدوى أيّام معدودة. أجريت الفحص، وتبيّن أنّني مصاب منذ أكثر من عشرة أيّام. تعمّدت أن لا أخبر أحداً من زملائي. قصدت العمل وطلبت إجازة لعشرة أيّام بحجّة ما، وأبلغت أهلي عذراً آخر لغيابي مدّة عشرة أيّام.
ذهبت إلى قريتي. أخذت معي بعض الحاجات الضروريّة والأدوية التي وصفها الطبيب للعلاج، ولم يكن لدي جرأة الاعتراف بأنّني تسبّبت بنقل العدوى لزملائي، ورفضت أيضاً أن أخبر عائلتي أنّي مصاب بكورونا.
انقطعت عن كلّ من حولي، لم يكن يخرق سكون وحدتي سوى موعد حبّة الدواء كلّ ثلاث ساعات، يترافق ذلك مع أصوات العصافير التي اختارت نافذة غرفتي مقرّاً لها. شعرت حينها أنّها تعاتبني على فعلتي مع زملائي، أو ربّما هي الشاهدة الوحيدة على حراجة وضعي الصحيّ؛ فأنا لم أعد أقوى على الحركة. لم أعد أقوى على المكابرة، لم أعد أقوى على الكذب!
التقطتُ هاتفي وطلبت رقم والدتي وقلت لها: "أنا مصاب بكورونا، أنا محجور في منزلنا في القرية، أبلغي البلديّة حتّى تتفقّدني يوميّاً، أخاف أن أموت ولا يعرف بي أحد"!
•الوقاية خير علاج
هي معركة المواجهة مع فيروس "كورونا" الخفيّ، ما أوردناه هو غيض من فيض، إذ أصبح لدينا عشرات الآلاف من الحالات المصابة به في لبنان. وما بين المسؤوليّة الأخلاقيّة والشرعيّة في التعاطي مع هذا الفيروس، لم تعد الوقاية خيراً من قنطار علاج، بل باتت بوزن حياتك وحياة من تحبّ.