د. نبيه أحمد (*)
لطالما سمعنا عن حروب خفيّة تحدث بين الدّول؛ فالحسابات التي لا يمكن تصفيتها بشكل علنيّ، تدور رحاها خلف الكواليس الأمنيّة، فمنها ما يخرج إلى العلن، ومنها ما يبقى طيّ الكتمان، لتكون صفحات التاريخ كفيلة بسردها بين ثنايا سطورها.
* "الشيطان الأكبر"
يعود العداء بين الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة إلى سنين طويلة؛ فبعد انتصار الجمهوريّة الإسلاميّة على الشاه المخلوع (حليف الولايات المتّحدة)، ظهر هذا العداء بشكلٍ واضح، مذ سمّاها الإمام الخمينيّ قدس سره بـ "الشيطان الأكبر". ولم يقتصر هذا العداء على الميادين والساحات السياسيّة والإعلاميّة فقط، وإنّما طال كذلك المجال الفنيّ، وخاصّة الفنّ السابع. وحيث إنّ أميركا تسيطر على هذا الميدان في ساحتها، انبرى من يخرق هذا الصمت بوضع أكثر الملفات الأمنيّة السياسيّة الحسّاسة على طاولة المشاهد؛ ليجعله يرى ويعرف ماذا كان يحصل خلف الكواليس، مقتبساً قضيّة أمنيّة معقّدة، وهي قضيّة الصحافيّ الأميركيّ "جيسون رضائيان"، الإيرانيّ الأصول، الأميركيّ الجنسيّة، في مسلسل تلفزيونيّ مليء بالأحداث والتشويق.
حمل هذا المسلسل اسم (گاندو)، وهو تمساح إيرانيّ قصير الفك، متوسّط الحجم، يعيش في إيران وشبه القارة الهنديّة، في مياه البحيرات والبرك والأنهار بطيئة الجريان وفي الأهوار والمستنقعات، وهو صعب الاصطياد، ويقوم بنصب كمين لفريسته عند اصطيادها. سبب تسمية المسلسل باسمه يعود إلى صعوبة هذه القضيّة الأمنيّة؛ لارتباطها بالجاسوس رضائيان(1)، وكيفيّة الإيقاع بأعضاء شبكته وتفكيكها، حتّى موعد التبادل الذي حصل عام 2016م.
* أخلاقيّات العمل الأمنيّ الإسلاميّ
أثبت المخرج "جواد أفشار" من خلال مسلسل (گاندو)، أنّه مخرج بمستوى عالميّ؛ فما قدّمه في هذا المسلسل يثبت أنّ السينما الإيرانيّة، بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، قد قطعت شوطاً كبيراً على مستوى إنتاجاتها؛ لأنّها اعتمدت بشكلٍ أساسيّ على احترام عقل المشاهد في أفلامها، فما يقدّمه الفيلم هو واقعيّ معيش، وليس من خيال الكاتب الخصب المتأثّر بأساطير الأبطال الخارقين، كما نرى في الأفلام الأمنيّة الأميركيّة.
يتميّز (گاندو) بأنّه مسلسل يُظهر للمشاهد، وللمرّة الأولى، ما وراء الستار؛ فوزارة الأمن هي مكان سرّيّ، لا يعرفه أحد، ولكنّنا في المسلسل رأينا كيف يكون هذا المكان، وكيف تتابع الاستخبارات الإيرانيّة أعداءها، بل كيف تلاحقهم من مكان إلى آخر؛ لدرء خطرهم عن هذا الوطن الذي يفتديه الجميع بأرواحهم، كما عبّر الضابط محمّد لأحد المسؤولين، عندما قال له: "إنّ هؤلاء الشباب الذين تسخر منهم، هم الذين يحمون الوطن من كلّ المتربّصين به، وقد أثبتوا أنّهم كبار وليسوا صغاراً كأعمارهم".
يمتاز العمل الأمنيّ الإسلاميّ عن أيّ عمل أمنيّ آخر، بأنّ الشرع الإسلاميّ هو الذي يرسم خطوطه العريضة، بخلاف الأساليب الأمنيّة الأخرى. كما أنّ مراعاة الضوابط الشرعيّة هي الأساس، حتّى لو تطلّب الأمر هروب العدوّ من أيدينا. ولكن في الأفلام الأميركيّة الأمنيّة، وحتّى في الواقع، نرى أنّ الغاية تبرّر الوسيلة، وكلّ الوسائل متاحة لتحقيق الهدف.
في (گاندو)، لا تراقَب العميلة ولا تُعتقل إلّا من قِبل امرأة، ولا يكون ثمّة رجال أصلاً، سواء في التعقّب أو إدارة المصادر أو حتّى في التنصّت على منزل امرأة، فالمعيار هو: المرأة هي التي تتعاطى مع المرأة، وهي تقف جنباً إلى جنب مع الرجل الأمنيّ في حماية الوطن.
* شخصيّات أمنيّة نموذجيّة
تميّز (گاندو) بأنّه قدّم لنا مشاهد واقعيّة عن واقع الرجل الأمنيّ الإسلاميّ؛ فهو في الميدان شرس مقدام، لا يهاب العدوّ ويجابهه بكلّ حنكة وذكاء، ونموذج الضابط الأمنيّ محمّد مع فريق عمله، جسّد لنا العديد من الدروس الأخلاقيّة في إدارة الأفراد، إلى التعاطي الأخويّ، وتعاطف الإخوة وتكاتفهم سويّة، إلى لحظات الصبر في أصعب المواقف؛ فنرى محمّداً في عمله كالأسد الهمام، وفي منزله يتعامل مع والدته بكلّ احترام ومحبّة، يحرص على راحتها، ويطلب دعاءها، ومع زوجته هو الرجل المتفاني، المقدّر لعملها الخاصّ في وزارة الخارجيّة؛ فلا يتدخّل في عملها، بل يتحاور معها ويستشيرها، وفي المقابل، هي تبادله الاحترام نفسه؛ فلا تتدخّل في عمله، وتقدّر غيابه عن المنزل، وعندما يعود، يجد زوجة مخلصة تفرش أمامه سجّادة الحبّ والعطاء.
لو ذهبنا أبعد من ذلك، إلى مسؤول محمّد في وزارة الأمن (داريوش فرهنگ)، سنجده قائداً يحسن التصرّف في أصعب الظروف، ذكيّ، سريع البديهة، يحسن تحويل التهديد إلى فرصة، يحرص على تعليم أفراده بكلّ محبّة. وفي منزله، هو أب مثاليّ، خاصّة بعد وفاة زوجته، يجعل ابنته فخورة به، فتعلن ذلك في حفل نيل جائزة عملها؛ فوالدها يعمل على حماية الوطن، ولذلك هي لا تعتب عليه إن لم يحضر حفل تخرّجها، فذكره كفيل بسعادتها.
* قوّة واقتدار إيران في مواجهة الغرب
عندما تستطيع أميركا أن تجنّد ابن مسؤول اقتصاديّ رفيع المستوى، وتعمل المستحيل لتهريبه من إيران؛ لتحاول تسجيل انتصار زائف، ستجد أنّ جنود الثورة حاضرون لمنع ذلك؛ فلو حاول قائد الطائرة تحدّي برج المراقبة وحتّى الاستخبارات الإيرانيّة برفض النزول، سيجد أنّ سلاح الجوّ حاضر؛ لتعليمه أصول اللياقة في احترام البلد الذي يقلع منه. وما حصل بين محمّد ورضائيان، خلال تبادل الأسرى، يوضح ذلك، عندما حاول الأخير مصافحة محمّد بقوله: "أريد مصافحتك لأنّي راحل الآن، وأريد أن نصبح أصدقاء"، فيجيبه محمّد: "أنت دخلت إلى هذا البلد كعدوّ لي، ولهذا ستغادره كعدوّ أيضاً، حتّى ملابسك التي قُبض عليك فيها لن نعطيك غيرها، وإن حاولت العودة مرّة أخرى إلى بلدي ستراني أقف لك في المرصاد".
* الجزء الثاني
انتهت قضيّة جيسون رضائيان في الجزء الأوّل من (گاندو)؛ ليُغلق الستار على فصل من فصول الصراع مع الأميركيّين، ويعود في الجزء الثاني في مواجهة جهاز الاستخبارات البريطانيّ MI6، حيث تبرز فيه دروس أخرى تسطّرها الاستخبارات الإيرانيّة في السينما، كما تفعل في الواقع.
اسم المسلسل: (گاندو) كتابة: آرش قادري
إخراج: جواد أفشار سنة
الإنتاج: 2019م
(گاندو) تمساح إيرانيّ قصير الفك، سبب تسمية المسلسل باسمه يعود إلى كيفية الإيقاع بالجاسوس رضائيان
(*) باحث في مجال السينما الدينيّة.
(1) جيسون رضائيان (مواليد 1976م) هو صحفيّ إيرانيّ أمريكيّ. في 22 تمّوز 2014م، اعتقلته السلطات الإيرانيّة مع زوجته، بتهمة التجسّس. أفرج عن زوجته في 6 أكتوبر بكفالة. لكن رضائيان ظلّ رهن الاعتقال لتسعة أشهر. في 20 نيسان 2015م، أُعلن أنّ السلطات الإيرانيّة وجّهت إليه 4 تهم ومنها: الجاسوسيّة. في 16 كانون الثاني 2016م، أفرجت إيران عنه وعن ثلاثة سجناء أمريكيّين آخرين تزامنًا مع دفع الولايات المتّحدة لإيران مبلغًا نقديّاً قدره مليار و700 مليون دولار.