غسان طه
رغم كل ما قيل عن الإمام الخميني الراحل قدس سره فإنه ما زال هناك الكثير مما لم يُقل حتى الآن وربما الكثير الذي لم يُكشف في آفاق تفكيره وطموحاته وتصوراته السياسية والفكرية، كمؤسس أول دولة إسلامية، وكعقلية ومشروع نهضوي اتسم بالشمولية في المنهج والأدوات والأسس الفكرية والمبادئ السياسية، فهذا المشروع الذي اختزن كل ممكنات المواجهة في سياق من المصداقية التي تفوق مستوى الكلام وتترجم إلى حالة من العمل لم يثبت أن الساحة السياسية والفكرية شهدت أو ستشهد بديلاً له.
وهذا الرجل لم يأخذ مكانته مما قام به من دور قيادي وريادي اتسم بالأصالة والاستقامة ولا من ملف الإنجازات والأسس والبناء العظيم الذي أرسى قواعده فحسب، إنما الأهم هو أن الإمام قدس سره فتح ملف التحديات العالمية بشكل لم يسبقه إليه أحد واقتحم مرحلة عصيبة من الزمن بما تغص به من مظاهر فكرية وثقافية وسياسية، وبلور المشروع الإسلامي كخطاب سياسي وكتجربة عملية في خضم لا حدود له من المؤامرات السياسية كما أنه كشف عن القدرات النظرية والتعبوية التي يختزنها الإسلام كمعتقد وكفكر يملك من الأسس والمقومات وعوامل الاستقرار والتحدي ما لا يتوفر لأي فكر آخر شهدته الإنسانية.
بين فواصل هذه الكلمات التي تختصر في مضامينها كل ما يُقال عن الإمام الخميني قدس سره نجد أن كتاب عادل رؤوف بصفحاته المائتين قد بذل جهداً كبيراً في محاولة منه لاكتشاف مشروع الإمام الخميني على مستوى الخطاب، والوعي والدولة. فجاءت هذه المحاولة لتسلط الضوء على فكر الإمام الاستراتيجي ونهجه الحركي ولتستشرف آفاقه من خلال توزيع العناوين الأساسية لهذا الكتاب إلى محاور رئيسية هي الخطاب الثوري، والقيادة، والإعلام والدولة ويتفرع عنها عناوين ثانوية ولج إلى عمقها وغاص في تحليلها بالاستناد إلى خطب الإمام وتصريحاته وكلماته التي شكلت مجمل العملية التحليلية في هذا الكتاب تحت عنوان الإمام الخميني رجل القرن الحادي والعشرين.
ويعمد بداية إلى شرح هذا العنوان فيوضح بأنه يحاول خلاله قراءة هذه المقولة عبر شقين من حياة الإمام السياسية وما اتخذته من صبغة من محتوى استراتيجي، شق يتمثل بما أثبتته الأحداث من رؤى سياسية وشق ثانٍ يتصل بما توقعه الإمام لمستقبل المنطقة الإسلامية ذاتها وفي محاولة منه لبلورة المنهج الثوري الذي يرى أن الفهم الخاص للإمام حول المفاهيم الإسلامية المتعلقة بالزهد والصبر وخلافة الإنسان ووراثة المستضعفين للأرض هو الذي شكل المرتكز الأساسي للخطاب ثم يقف على المحطات الاستشرافية له بدءاً من توقعه لانتصار الثورة مروراً بسقوط الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى التفرد الأميركي للساحة في مواجهة الإسلام. ورأى أن واقعية سياسة الإمام جاءت من عدم الانصياع لأي شكل من أشكال الخوف ومن خبرة سبعين عاماً من الفعل الثوري والقدرة على تشخيص أزمة العالم الإسلامي إضافة إلى نكران الذات.
ثم يعمد إلى تفكيك الخطاب الثوري فيرى أن الخطاب الثوري شكل واحداً من الأدوات الثورية التغييرية في المشروع الإسلامي، مشيراً إلى ما يعنيه في موضوعية الخطاب الثوري ومكوناته الأساسية وصفاته العامة ليحاول بعدها سبر أغوار هذا الخطاب نصاً وتحليلاً وتنظيراً عبر خوضه غمار البحث في النص الخميني الثوري ليرى ما يختزنه من مفاهيم وآليات ومحاور وقضايا إسلامية يسترشد بها إلى فضاء المشروع الإسلامي العالمي وذلك بعد أن يرى أن هذا الخطاب اتصف بنوع من أنواع القوة الشمولية بفعل الملكات الذاتية العرفانية والفهم الصحيح للإسلام المحمدي كما اتصف في الوقت عينه بالثبات كصفة من صفاته حيث اختزن التعددية الأسلوبية ولم يختزن التعددية المضمونية المتناقضة، ثم يقف على مفردات الخطابات الثورية ذات المضمون القرآني فيرى أن الإمام أراد أن يؤسس للخطاب الثوري الإسلامي من خلال تأسيسه للمفردة انطلاقاً من موقع هذه المفردة في المنظومة الثقافية الكلية وسط عالم فكري وسياسي معقد ودقيق، ليخلص بعدها إلى أن كل ثوابت الخطاب الخميني تقرر حقيقة أساسية، هي حقيقة القوة التي يتمتع بها هذا الخطاب، القوة في التأسيس والقوة في المصطلح الثوري والشعار الثوري والبناء النظري، والقوة في الشمولية والتحريك والمبادرة الثورية والوضوح والتحديد وبلورة المفاهيم، ثم بالاعتماد على منهجية الحضور والإحضار من جهة الواقع القيادي المتمثل بالحضور المرجعي الذي شكل هاجساً للإمام بعد أن كان غائباً ليحاول أن ينهض بهذه القيادة إلى مستوى المسؤولية بأساليب متعددة إضافة إلى منهجية أخرى تمثلت بالخظر المتمحور حول المتحررين والمتظاهرين بالقدسية المزيفة والتقوى ومحاولة إحضاء القيادة الإسلامية في حياة الأمة وهو الخط المرتبط بالفقاهة والفقيه التي يراها تتمثل بولاية الفقيه ثم التصدي إلى مقولة فصل الدين عن السياسة لكي يحاول تأسيس وعي آخر يتسمد مصداقيته من تجربة الدولة الإسلامية القائمة وليفضح بهذا العمل كل الدعاوي بهذا الصدد.
ولم يخلُ هذا الخطاب من التصدي للإعلام المعادي حيث يرى الكاتب أن آراء الإمام بموضوع الإعلام جاءت باتجاهين، اتجاه الإعلام الإسلامي مضموناً ومستوى ودرواً، واتجاه الإعلام الآخر ودوره التاريخي تجاه العالم الإسلامي والفكر الإسلامي حيث يشخص الإمام في هذا المجال من خلال خطابه الثوري عدداً من السياسات التي يتحرك الإعلام الغربي لترويجها فضلاً عن إعلام الدول الدائرة في فلك التبعية.
ويخلص الكاتب في النهاية إلى أن الحكومة الإسلامية شكلت الهم المركزي للإمام طوال حياته السياسية، فنظر لها عبر كتابه الشهير الحكومة الإسلامية ونظام الضرائب لكي تبدأ الدولة الإسلامية مخاضها بعد الانتصار ولتقوم على مبدأ الدستور والاستقلال السياسي. ودعم مستضعفي العالم بعد أن تحول شعار لا شرقية ولا غربية إلى محور مركزي من محاور المشروع الإسلامي ولتفتح مع انتصارها ملف المواجهة مع الدول الكبرى ببث الوعي لدى الشعوب الإسلامية ولتتحول المواجهة إلى ساحة الواقع في أكثر من بلد إسلامي على غرار لبنان وفلسطين وأفغانستان والبوسنة وغيرها، وفي ذلك يعود الكاتب إلى أقوال الإمام قبل انتصار الثورة التي ستشرق فيها هذه المرحلة أي مرحلة نهضة الشعوب الإسلامية وكل ذلك يراه بفضل الدفع الثوري الذي أعطاه الإمام قدس سره في خطابه. ورغم كل ما قاله الكاتب ورغم هذا التحليل المستفيض نراه يعمد إلى التأكيد بأنه لم يستوعب في كتابه مجمل المفردات في خطاب الإمام حيث ما زال برأيه هذا الخطاب يستبطن رؤى ومفاهيم لم يتم التطرق لها.