حوراء حرب(*)
* رؤيا... لم ينته تأويلها
ما أجمل هذا الصباح... فيه دفء يوم ربيعي أشرقت شمسه لتضفي على الكون سحراً يزيد من جمالية الطبيعة التي تلوّن الجنوب... كل الجنوب بألوان الزهور... دفء ينبعث من أعماقي... من ذلك الوجه المتلألئ الوضّاء... وجه الخميني العظيم الذي كان يجلس عندنا في غرفة الاستقبال وحوله عدد من الرجال قليل كنت أرقبه بمقلتين يغمرهما النور الساطع الذي أشرق بقدومه علينا زائراً... أرقب وجهه وعنقه... وكأنهما اللجين سائلاً بين شعاع الشمس وأمواج القمر... أرقب يديه اللتّين قدّمتا لنا أمهار الحرية في زهرية المجد والعزّ والكرامة... يحركهما وهو يتكلم... يحدّثنا عن الحرية والنصر وأسبابهما... يقول: "النصر بحاجة إلى أركان ثلاثة (يرفع إبهامه وسبابته والوسطى): إلى الرجال... والدماء... والترفع عن الدنيا". كان هذا آخر ما قاله... ثم قام مستعداً للرحيل... حمل بيده هدية ملفوفة وقدمها إليّ... كان فيها ثوب أبيض ناصع... يخطف الأبصار بريقه... أفقت من نومي منتشية وقد أسكرني حبه المولود في قلبي منذ انطلاقته، منذ انتصاره... جالت الأفكار في رأسي... ليت الشيخ راغباً موجود لكي أخبره بهذا الحلم الجميل... لا شك بأنه سيُسرّ به كسروري... ولكن لا بأس فعندما يأتي من إيران أخبره... سألت عن تفسير هذا الحلم... سألت أكثر من شخص... كلهم أجمعوا على أنه قدّم إليّ النصر القريب الناصع البرّاق... طربت نفسي للتفسير أكثر من طربها بالحلم... فمعاناة الجنوب سوف تنتهي... وسننعم بالأمان. ثلاثة أسابيع مضت... عدت إلى انشغالاتي وأعمالي... وأطلّ فارسي من سفرته... وفي أول لقاء بيننا حدثته بما رأيت... كنت أصف له الإمام بدقة... كما رأته عين محبتي وولائي... وجهه وشعره... لحيته ويديه... والنور الذي كان يسطع منه... أنا أتكلم وهو يصلي على محمد وآل محمد مع كل وصف ومع كل همسة... ولكنني حين كلمته عن أركان النصر التي ذكرها الإمام، وعن الثوب الأبيض الذي قدمه إليّ غاب... غاب في عالم بعيد... ورأيت في عينيه لمعاناً لم أره من قبل... ورأيت في ابتسامته جمال العالم الذي سرح فيه، قطعت شروده قائلة: "ماذا يمكن أن يكون تفسير هذا الحلم... هل صحيح أنه النصر؟".
"ربما يكون هو... وربما يكون أعظم". لم أفهم معنى مقالته... فما الذي يمكن أن يكون أعظم من النصر؟... لا أدري... ولكن بعد أقل من شهرين... عرفت تأويل رؤياي... وعرفت مقصده... فسرتهما دمه الذي سال على الأرض نقياً... فسرتهما تلك البسمة التي طافت على وجهه وهو نائم بيننا في ليلة الجمعة... مسجّى... بسمة ما زادت وجهه إلا تألقاً وبهاء... فسرتهما البركان الذي ثار في تشييعه مؤذناً بالانتصار... فسرهما ولادة راغب الصغير بعد أشهر ستة... وفي فجر يوم الجمعة. فسرهما الانتصار العظيم في أيار من العام ألفين... ولكن لم ينته التفسير بعد... ما زلنا ننتظر ما هو أعظم من النصر الجنوبي الكبير... ما زلنا ننتظر عودة القدس... وصاحب الزمان عجل الله فرجه.
* أجمل الأسماء
دخلت إلى المستشفى لأعود صديقة لي، وأهنئها بمولودتها الجديدة... في الغرفة كانت الأم والأب وطفلتهما... وبعض الأقرباء... يحاولون أن يختاروا للمولودة اسماً يليق بها... وبجمالها... والحقيقة أنني فوجئت كثيراً... فمن بين الأسماء التي تمّ اختيارها لم أجد اسماً واحداً عربياً... فهذه تقول ميراي... وأخرى تقول جاكي... ووو. أما الأم والأب فقد كانا مختلفين... فالأم تريد اسم سولان، والأب يريد اسم كارين... واحتدم النقاش بينهما... كل منهما يحاول إقناع الآخر بحسن اختياره... سألتني الأم: "ما رأيك... أيهما أجمل سولان أم كارين؟". "الحقيقة كلاهما ليس جميلاً... وكلاهما ليس لنا... يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: "وحقّ الولد على أبيه أن يحسن اسمه، ويحسن تربيته، ويعلّمه القرآن"، ألستِ مسلمة؟ ألستِ عربية؟ إذن اختاري لابنتك اسماً إسلامياً... أو على الأقلّ اسماً عربياً، فلغتنا العربية زاخرة بأجمل المعاني والألفاظ...". قالت الأم: "معك حقّ... ما رأيك يا عزيز؟" سألت زوجها: لم يجب الزوج... بل رمقها بنظرة حادّة أظهرت أنه غير مقتنع بكلامي... تبسمتُ قليلاً.. وعاد بي الزمان إلى الماضي... تذكّرت يوم عادت أمي من المستشفى تحمل بين يديها طفلة صغيرة... أختي الصغيرة، كم فرحنا بها... استقبلناها بحفاوة كبيرة... وكلنا نريد أن نحملها وأن نلاعبها... وأمي تنهرنا رغم ما يبدو عليها من التعب وتقول: "اذهبوا يا أولاد... أختكم ما زالت صغيرة ولا يمكنكم أن تحملوها الآن، انتظروا حتى تكبر قليلاً". "ماذا سنسميها يا أمي؟". "لا أدري... والدك هو من يختار الأسماء". لم تكد أمي تكمل كلامها حتى سمعنا صوته في الخارج... تسابقنا لكي نزفّ إليه الخبر السعيد... ثمّ واكبناه إلى غرفة النوم... حيث الصغيرة نائمة... حملها بين يديه... قرأ بصوت منخفض الأذان في أذنها اليمنى... والإقامة في اليسرى... وتلألأ وجهه بشراً... قالت له أختي: "هل ترى يا أبي ما أجمل أختي؟ انظر إلى رأسها بحجم حبة الليمون" فقرص خدّها ملاطفاً وقال: "وهل تريدين أن يكون رأسها بحجم رأسك... وخداها ممتلئَين كخديك؟". "ماذا ستسميها يا أبي؟". وجّه كلامه إلى إحدى قريباتنا يسألها: "ما رأيت يا حاجّة؟ ماذا نسمّيها؟". "استغفر اللَّه العظيم... الفتاة رقم خمسة وهو محتار في تسميتها" (همهمت بصوت منخفض): "سميها وجعة تخطف نفسها".
"استغفري ربك يا حاجّة... أما زلتم تفكرون بطريقة أهل الجاهلية... وما الفرق بين الذكر والأنثى... ألا تعلمين أن الفتاة رحمة من اللَّه سبحانه؟ سوف أختار لها أجمل الأسماء". فكّر ملياً ثمّ قال: "سأسمّيها صفية". شهقتُ وقلتُ باستنكار: "ماذا!... ما هذا الاسم يا أبي؟ إنه اسم يناسب العجائز... يوجد الكثير من الأسماء الجميلة... ما رأيك باسم رشا أو رحاب". "لا، لا... هذه الأسماء كلها ليست جميلة". "إذا كنت مصرّاً فسمّها صفاء... بدلاً من صفية، على الأقل يكون اسماً حديثاً". "تعالي يا ابنتي (نطقها بالعربية الفصحى... فهو غالباً ما كان يكلمنا باللغة العربية الأصيلة) ألا تحبين أختك؟". "طبعاً أحبها... أحبها كثيراً". "إذن اسمعي... لقد اخترت لكِ اسماً شرّفته زينب بطلة كربلاء... وزهراء اسمها كان لسيدة نساء العالمين... أما سمية فكانت أول شهيدة في الإسلام... وإصلاح كان الهدف من ثورة الحسين... وأحمد اسم من أسماء رسول اللَّه... إذن لنتخيّل أن أختك كبرت وعلمت أنني اخترت لكل منكم اسماً خالداً لأحد العظماء في تاريخنا الإسلامي، واخترت لها اسماً ركيكاً... ألن تكون حزينة؟ هل ترضين أن تحزن أختك؟". "كلا... ولكن من هي صفية؟". "صفية بنت عبد المطّلب... هي عمة الرسول صلى الله عليه وآله وهي امرأة عظيمة قدمت خدمات جليلة للإسلام... ماذا؟ هل أعجبك الاسم الآن؟" حرّكت رأسي موافقة... طبعاً سيعجبني... لقد كان بارعاً في فنّ الإقناع.
* قبلة على الجبين
في سنة 1982 عندما اجتاحت "إسرائيل" وطننا... كنت في التاسعة من العمر... رأيت الدبابات المعتدية... والجنود المدجّجين بالسلاح... وكل تلك الآليات والمدافع... وخوف الكبار... والحيرة والذهول... كل هذه الأجواء جعلت الخوف يتغلغل إلى نفوسنا نحن الصغار... استمرت حالة الذعر هذه حوالي الشهرين... كان والدي خلالهما في إيران... ولكنه عاد... عاد وبدأت الاجتماعات... والجلسات مع الشباب... مع العجائز... مع النساء... وحتى مع الأطفال... أراد أن يجتث هذا الخوف من النفوس... والقلوب... كان يحدّث الجميع عن القوّة الكامنة في أعماقنا... قوّة محمد وعليّ والحسن والحسين... ويحدثنا عن ضعف عدوّنا... ويسخر منهم ومن قوتهم المزعومة... يحثّ الجميع على مقاطعة الأعداء... على مقاومتهم... وحتى على إظهار الغضب على وجوهنا أمامهم... تغيرت المواقف... تغيرت المشاعر... بدأ الذعر يتلاشى من النفوس شيئاً فشيئاً. وفي يوم من الأيام... وصل إلى منزل جدّتي أم راغب... وكنا مجموعة من الأطفال... نتحدث عمّا جرى معنا بحماس كبير... جلس على حجر إلى جانب الدار... وبدأ يكلمنا فرداً فرداً... يسألنا عن هذه الفرحة المرتسمة على وجوهنا... أخبرناه بأن دورية إسرائيلية مرت بجانبنا... ورمت إلينا السكاكر والحلوى... فالتقطناها من الأرض... ورشقنا الإسرائيليين بها. فرح... فرح كثيراً بنا... وقال: "أحسنتم... أحسنتم أيها الأبطال الصغار... تعالوا إليّ... كل من رشق الدورية له قبلة على جبينه"... أحطناه كلنا... تزاحمنا حوله... فكلنا نريد هذه القبلة... إكليل المجد على رؤوسنا... "أبي أريد أن أخبرك شيئاً... حسن ابن خالي يخاف عندما يرى دورية اليهود... ويهرب" (حسن في الرابعة من العمر) ناداه... "تعال يا حسن، اجلس هنا..." أشار إلى ركبته... "هل تخاف حقاً من اليهود؟". هزّ حسن رأسه مجيباً بنعم... "لماذا تخاف منهم... هؤلاء جبناء... هل تعلم يا حسن أنك إذا عبست في وجوههم سوف يخافون ويهربون منك؟" بقي حسن صامتاً يستمع إليه... صمت لفترة طويلة... ولكنه لم يهرب منهم بعد ذلك اليوم... بل أنه عبس في وجوههم... ثم امتشق سلاحه وراح يطاردهم... من موقع إلى موقع... ومن وادٍ إلى وادٍ... ومن تلةٍ إلى تلة... حتى هربوا منه ومن كل الوطن... وارتفع حسن مالك حرب إلى الفردوس شهيداً... لا شك أنه التقاه هناك... وتعانقا... ولا شك أنه طبع على جبينه قبلة... ليست قبلة تشجيع هذه المرة... وإنما... قبلة اعتزاز وافتخار... قبلة تهنئة بالنجاح... وبالفوز العظيم...
(*) ابنة شيخ الشهداء الشيخ راغب حرب.