السيد علي حجازي
بين علي عليه السلام والثورة أكثر من وشيجة. إنها مسيرة حياة ورحلة عمر. إن الثورة في مفهوم الإمام علي عليه السلام ليست طريقاً لتحقيق هدف سياسي أو اجتماعي أو فكري أو ديني. الثورة روح الحياة الإنسانية. وإذ لا ثورة، فلا إنسان، الإنسان الذي انطوى فيه العالم الأكبر. والإنسان هو التجلي الأكبر للصفات الكمالية الوجودية في عالم الإمكان. ولما كان ذلك مرجعه إلى رفض الشر ورفع النقص، وحيث إن ذلك لازم لوجود المجتمع البشري الذي يختزن كل أنواع الظلم والفساد، لأنه لم يهتدِ بنور الإيمان، ولم يهجر أطماعه وشهواته، كانت الثورة داخل النفس ضرورة لا خياراً، وبين الإمام علي عليه السلام والسلطة عداوة وجفاء.
* السلطة لرفض الظلم والفساد
لقد جسَّد علي عليه السلام ثورة السلطة وبقي بعيداً عن سلطة الثورة. كان الحاكم الثائر الذي سخّر السلطة لرفض الظلم والفساد وزرع في نفوس الأمة كيف تحاكم السلطان. كانت السلطة عنده للحق والعدل، ولم تكن القوة سنداً، فالضعيف عنده قوي حتى يأخذ له حقه، والقوي عنده ضعيف حتى يأخذ منه الحق. لم تكن الثورة عنده تمرد فرد أو قيام جماعة. ولم تكن الثورة حركة سلاح يشهر في وجه الحاكم. الثورة قيام فردي على النفس وعلى الجهل وعلى الفقر.
* صفات الثوار
والثورة قيام جماعة على التحلل والظلم والعصبية. وفي وصفه لشيعته الذين يؤدون دور الثوار، يقول عليه السلام: "شيعتي الذبل الشفاه الخمص البطون رهبان الليل أسد في النهار إذا جنهم الليل ازروا على الأوساط وارتدوا على الأطراف وحفوا الأقدام وافترشوا الجباه، وإذا تجلى النهار فحُلماء علماء أبرار أتقياء، اتخذوا الأرض بساطاً والماء طيباً والقرآن شعاراً، وإن غابوا لم يفتقدوا، إن رأوا مؤمناً أكرموه وإن رأوا فاسقاً هجروه، شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة"(1)... فهذه الأوصاف ليست لثورة سلاح. إنها ثورة النفس الإنسانية التي ترفض الذل والهوان وتترك الأطماع وتعيش ألم المحرومين. تعيش مع الله عن وعي وعلم. وهذا مخالف لكل تعاليم الجيوش والعسكر في العالم التي تجعل من الجندي كتلة من القوة الدافعة ليس إلا.
* صفات المتقاعسين
وفي مقابل ذلك، يبيّن عليه السلام صفات المتقاعسين ويزرع في نفوسهم روح الاستنهاض للدفاع عن الحق والمبدأ، يقول في خطبة الجهاد: "ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلبها وقلائدها. ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وآخرين، ما نال رجلاً منهم كلم ولا أريق لهم دم. فلو أن امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان عندي جديراً"(2). فلا صورة تكبر في قلب المرء أكبر مما ذكره عليه السلام، لتحرك فيه روح الثورة والتضحية والفداء، دفاعاً عن حق الأمة المهدور. وبحق هؤلاء المتقاعسين المتصفين بصفات تتنافى مع كبرياء الرجل. "يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال". الحرب عند الإمام علي عليه السلام ليست للقتل والتشفي من العدو. ولكن من يملك السيطرة على شهوة التشفي عند الانتصار؟ فالبطولة ليست في دحر العدو، بمقدار ما هي في إيقاف النفس عند حدود القيم ودحر شهوات النفس. يقول عليه السلام: "لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم" فلا تكونوا البادئين بالقتال "لأن ترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة لكم عليهم".
* قيم الحرب
ويعلِّم أصحابه شرف الحرب وقيمها السامية، فالعداوة لا تصل إلى حد التعدي للنيل من العدو، بل المواجهة مع العدو وصلاحه وإصلاحه وهدايته. سمع عليه السلام بعض أصحابه يسبون أصحاب معاوية فقال: "لو قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله". كان هم الإمام علي عليه السلام أن يوحد الأمة تحت راية الإسلام. وكان يعرف أن قوة الأمة تنبع من وحدة كلمتها. وكان همه أن يقيم مبادئ العدل وأن تشيع مكارم الأخلاق. وكان همه أن يحض الناس على التفكير والتدبر، وأن لا يطيعوا كالأنعام، فإن الله خلق لهم الحواس والمشاعر والعقل ليروا ويسمعوا ويتدبروا، فيعرفوا الحسن والقبيح. ولهذا، كان جيش الإمام علي عليه السلام مؤلفاً في أغلبه من أهل الورع والتقوى، قد عودهم الإمام حرية التفكير والإرادة، فكان الواحد منهم يرى لنفسه حق مجادلة القائد، وكانوا لا يسيرون إلا عن وعي لما يسيرون وإلى أين. سأله رجل وهم في الطريق إلى البصرة: يا أمير المؤمنين أي شيء نريد؟ قال عليه السلام: "أما الذي نريد وننوي، فإصلاح إن قبلوا". قال: وإن لم يقبلوا؟ قال عليه السلام: "ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به"، قال: فإن لم يرضوا؟ قال عليه السلام: "ندعهم ما تركونا"، قال الرجل: فإن لم يتركونا؟ قال عليه السلام: "نمتنع عنهم".
* درس للحاكم والمحكوم
كان عليه السلام يرى أن داء الأمة حكامها، فكان لا بد من مواجهتم ووضع الحد لتسلطهم وسطوتهم. ولهذا، ورد عنه "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" لأنها الكلمة التي تدخل النفس، علها ترشدها نحو الهداية وبها يُهتدى. دخلت على معاوية سودة بنت عمارة الهمدانية بعد شهادة علي عليه السلام، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين. فقالت: إن الله سائلك عن أمرنا وعما افترض عليك من حقنا ولا يزال يقوم علينا من يبطش بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا دوس البقر. هذا ابن أرطأة قدم بلادي، فقتل رجالي وأخذ مالي، فأَما عزلته فشكرناك. فقال: أتهدديني بقومك، لقد هممت أن أردَّكِ على قتبٍ أشوس، وأحملك إليه فينفذ فيه حكمك. فبكت وقالت:
صلى الإله على روح تضمّنه |
قبر فأصبح فيه العدل مدفونا |
قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً |
فصار بالحق والإيمان مقرونا |
قال ومن ذلك؟
قالت: علي بن أبي طالب.
فقال: ما أرى عليك منه أثر.
قالت: بلى، أتيته يوماً في رجل ولاه على صدقاتنا لم يكن بيننا وبينه إلا ما بين الغثّ والسمين.
فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر إليّ، قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد عليَّ وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك.
ثم أخرج من جيبه قطعة، فكتب فيها عزل ذلك الرجل. قال معاوية: اكتبوا لها بإنصافها والعدل عليها.
فقالت: ألي خاصة أم لقومي عامة؟
قال معاوية: ما أنت وغيرك؟
قالت: هي -والله- الفحشاء واللؤم، فإن كان عدلاً شاملاً، وإلا فأنا كسائر قومي.
فقال معاوية: هيهات، علّمكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان.
فهذا درس للحاكم والمحكوم: درس للحاكم أن يهتم بأمور الرعية، فلا يترك والياً ظالماً، وأن يسمع شكاوى الناس ويأخذ بها، وأن يكون قول الرعية أصدق من الوالي. وهذا ما لا نجده في كل حكومات الدنيا، حيث حاشية السلطان هي الحق.ودرس للرعية بأن لا تهاب السلطان إلا في الحق، وأن لا تترك الحق خوفاً. ولو عاش المسلمون الجرأة بوجه السلطان، لما وصلنا إلى ما نحن عليه. وإنما تسلط من تسلط لترك الأمة الرد والمساءلة، بل كانت تسلم خضوعاً وإذلالاً.