مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإنفاق على إيقاع الإعلانات

د. طلال عتريسي(*)

 



يحفظ الإنسان بقاءه بعد الحصول على الحاجات الضرورية التي تكفل هذا البقاء وتحقق استمراره، مثل الطعام والشراب والرعاية الصحية وسوى ذلك مما عرفه الإنسان في كل العصور وفي كل المجتمعات وفي مختلف مراحل الحياة. لقد اختلفت طرق تحقيق الحاجات بحسب قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة، أي الحصول على المزيد من الموارد من جهة وبحسب التطور الذي حصل من جهة ثانية في الوسائل التي استخدمها الإنسان بعد الاكتشافات العلمية والتقنية التي غيرت الكثير في حياته. بحيث يمكن القول إن المقارنة بين حياة الإنسان اليوم وبينها قبل قرن مضى على سبيل المثال تبين الاختلاف الكبير ليس فقط في نوعية ما يأكله أو يلبسه، بل وكذلك في نوعية الإنفاق الذي يقوم به.

وقد ترافق ذلك مع تغير في المفاهيم المتعلقة بالإنفاق. ففي حين كان الناس في معظم الحضارات ينفقون بدافع داخلي تفرضه الحاجات الضرورية التي لا بد من الحصول عليها، بات الإنفاق في عالم اليوم يخضع لتحريض خارجي. أي إن وسائل الإعلام الحديثة ومعها كل وسائل الاتصال ومن خلفها الكثير من العلماء والخبراء في المجالات النفسية والاجتماعية، يعملون من أجل دفع الإنسان إلى المزيد من الإنفاق، بغض النظر عن حاجته الفعلية إلى ما يشتريه. وهذا ما نطلق عليه الاستهلاك.


* الاستهلاك حاجة أم رغبة:
لأن الاستهلاك ليس شراء الإنسان ما يحتاجه، بل هو الإنفاق على ما لا يحتاجه، وهذه هي المعضلة التي نعيشها اليوم. أي التجاذب الدائم بين ما نحتاجه وبين ما تقدمه لنا وسائل الإعلام على أنه حاجة وهو في الحقيقة ليس كذلك. وتستفيد هذه الوسائل ومن خلفها الخبراء الذين أشرنا إليهم من الجوانب النفسية عند الإنسان، فيقوم هؤلاء بتحريض الرغبة، بحيث يبدو ما نرغب فيه وهو كثير ولا حدود له وكأنه حاجة أو ضرورة لا نستطيع العيش بدونها. والرغبة الإنسانية كما نعلم لا حدود لها، ولا يمكن إخضاعها إلا بقدرة الوعي والعقل، أي بالقدرة على الضبط والسيطرة. وهذه لا تتحقق إلا بمعرفة طبيعة الرغبة من جهة، وطبيعة من يقوم بتحريضها من جهة أخرى. وهذا ما تسميه الأدبيات الإسلامية وأدبيات الحكمة في معظم المجتمعات بـ"القناعة".

أما البحث الدائم عن إشباع الرغبة: أي الرغبة في امتلاك كل ما نشاهده وكل ما يعرض أمامنا، والرغبة في الحصول على كل شيء، وعلى كل ما يقع عليه البصر... وبغض النظر حتى عن إمكاناتنا المادية أو المعنوية... فيصبح بحسب المفهوم القرآني خضوعاً للهوى. أي إن الإنسان الذي يخضع لرغبته التي لا تتوقف عن الطلب والتمني وكأنما يخضع لهواه. "أرأيت من اتخذ إلهه هواه؟". والهوى هو خلاف العقل والتعقل والتفكير المنطقي. أي هو هنا التعارض بين الحاجة الفعلية وبين الرغبة الوهمية. هنا، يكمن الفارق بين الإنفاق الضروري وبين الإنفاق الاستهلاكي الذي يحركه "الخارج". والخارج كما أشرنا هو وسائل الإعلام والدعايات وتوظيف البنى النفسية والعاطفية والانفعالية للإنسان في مختلف مراحل عمره، لكي يتوجه نحو الإنفاق الاستهلاكي من دون أي شعور بالقلق أو بالتردد. لا بل المطلوب في مثل هذه الحالة أن يشعر الإنسان بالرضا عن الذات، لأنه يستجيب لاعتبارات اجتماعية ونفسية قدمتها له وسائل الإعلام والدعايات على أنها اعتبارات ضرورية ولا يمكن تجاهلها أو التخلي عنها. فيشتري الإنسان رجلاً أو امرأة سلعة معينة لأن الدعاية قدمتها إليه على أنها تجعل حياته أو حياتها أكثر سهولة. أو لأنها ستجعله أكثر جمالاً أو أكثر شهرة بين أقرانه... وهي كلها ادعاءات وهمية في معظم الأحيان، لأن السلعة نفسها سوف تقدم إلينا بعد فترة وجيزة بعد إضافة القليل من المواد إليها على أنها الأفضل... علماً بأنها كانت "الأفضل" في الدعايات السابقة...

* الإنفاق وتحكّم دعايات الاستهلاك:
ما نشهده في عالم اليوم من ضغوط إعلامية تحيط بنا من كل جانب وتحاصرنا على امتداد ساعات اليوم، وتحثنا على الاستهلاك أي شراء ما لا نحتاجه قلب المقاييس والموازيين رأساً على عقب. فلم يعد المهم هو الحصول على هذه الحاجة الغذائية، أو على هذا اللباس أو ذاك، أو على هذه الوسيلة أو تلك. بل بات المهم هو أن نحصل على ما يعرض علينا بغض النظر عن حاجتنا الفعلية إليه.. لا بل ذهبت وسائل الإعلام، من خلال الدعايات المتكررة، إلى ربط الحصول على الحاجة بالترقي الاجتماعي. أي أنها جعلت استهلاك هذه السلعة أو تلك مدخلاً للتميز عن سائر الناس الذين لم يتمكنوا من شراء السلعة المذكورة. هكذا سنشهد بمرور الوقت وفي مختلف الأوساط الاجتماعية من يحاول أن ينفق ليس وفق ما يحتاجه، بل وفق ما ينسجم مع ما يشاهده من دعايات لاستهلاك حاجات تحولت مع تكرار الإعلان عنها إلى "ضرورات" اجتماعية لا بد من الحصول عليها. لذا، لا تقتصر النظرة إلى التبذير المذموم في القرآن الكريم على أنه الإنفاق في غير موضعه فقط، بل يصبح التبذير أيضاً في غير ما نحتاج إليه وفي ما يستجلب الشهرة والتمايز عن الناس، وهي صفات أيضاً مذمومة ويدعو القرآن الكريم والأحاديث الشريفة إلى الابتعاد عنها لكراهتها. والمشكلة أن كُثراً من المؤمنين، وحتى من غير الميسورين، قد وقعوا في فخ الاستهلاك الذي يريد الإنفاق لتحقيق الرغبات، والمكانة الاجتماعية - وليس لإشباع الحاجات الضرورية لكل إنسان. ما يجعل حياتهم أكثر صعوبة وعسراً.

* هل نجعل أطفالنا أسرى رغباتهم؟
ومن المؤسف أن الكثير من المربين لا يلتفتون مبكراً إلى خطورة هذه القضية وإلى أهميتها على سلوك الإنسان وعلى شخصيته المستقبلية. والمقصود بذلك الاهتمام المبكر بتدريب الطفل على الصبر، أي ألاّ يُعطى هذا الطفل كل ما يرغب فيه حتى لو كان بمقدور الأهل تلبية رغباته المختلفة. إن تلبية كل رغبات الطفل يعني أن نجعله مستقبلاً أسير ما يعرض عليه, وأن نجعل بنيته النفسية هشة، وغير قادرة على مقاومة الرغبات المختلفة. وتوفير كل شيء للطفل يعني أيضاً أننا نساهم في تكوين شخصية ضعيفة، لا تستطيع أن تتحمل تعقيدات الحياة وصعوباتها والإحباطات التي لا بد أن يواجهها كل إنسان...

لذا، يصبح المطلوب تدريب الطفل على التحمل وعلى الصبر وعلى الانتظار للحصول على ما يحتاج، كما يصبح من الضروري تعليمه على التفريق بين ما يحتاجه وما يرغب فيه. وعلينا نحن المربين أن نلبي حاجات الطفل الضرورية، ولكن ليس من الضروري أن نلبي تلقائياً رغباته التي لا حدود لها.. وهذه بتقديرنا مسألة في غاية الأهمية على مستوى تكوين شخصية الطفل وتأثيراتها المستقبلية.  إن ما يطلق عليه اليوم عصر الاستهلاك يتلخص في فكرة واحدة هي طغيان الرغبة غير المحدودة على الحاجة المحدودة والبسيطة، هي خضوع الإنسان لما يعرض عليه، لا لما يحتاج إليه فعلاً. وبسبب رغبة المجتمعات الغربية في تحقيق أقصى ما تستطيع من رغباتها، ذهبت إلى احتلال بلدان العالم الأخرى ونهب ثرواتها وخيراتها... وعصر الاستهلاك على المستوى الفردي هو السبب في معظم التوترات النفسية والاجتماعية التي يعيشها الإنسان اليوم، لأن ذهنية الاستهلاك أفقدته البساطة التي تحتاجها الروح لفك قيودها... من هنا، التأكيد الديني عموماً على بساطة العيش وعلى رفض التبذير حتى لا نكون ومن حيث لا ندري من ﴿إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ (الإسراء: 27) كما وصفهم سبحانه وتعالى...

(*) أستاذ علم الاجتماع - الجامعة اللبنانية.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع