فيصل الأشمر
نظر الشعراء على مختلف العصور إلى الصديق نظرات تختلف من شاعر إلى آخر، ومن ظرف لدى الشاعر نفسه إلى ظرف آخر، بحسب تغير الأيام وتغير الأحوال بين الشاعر وصديقه. فنرى بعض الشعراء مثلاً يحث على اتخاذ الصديق ويجعله كالأخ الشقيق أو أفضل منه، في حين نجد شعراء آخرين يحذّرون الناس من غدر الصديق وشره المستتر بانتظار ترقب الفرصة السانحة.
وهذا أبو العتاهية يرى أن أفضل ما في العيش هو الصديق، شرط أن يكون صديقاً مخلصاً، فيقول:
أَلا إِنَّما الإِخوانُ عِندَ الحَقائِقِ |
وَلا خَيرَ في وُدِّ الصَديقِ المُماذِقِ(1) |
لَعَمرُكَ ما شَيءٌ مِنَ العَيشِ كُلِّهِ |
أَقَرَّ لِعَيني مِن صَديقٍ مُوافِقِ |
وَكُلُّ صَديقٍ لَيسَ في اللَّهِ وُدُّهُ |
فَإِنّي بِهِ في وُدِّهِ غَيرُ واثِقِ |
ويرى أبو الفتح البستي، أن الأفضل للمرء أن يعتزل إذا لم يجد الصديق، أما إذا وجده، فليفرد له مكاناً في القلب، فيقول:
إذا لم تَجِدْ ناصِحاً مُشفِقاً |
فإنَّ السَّلامَةَ في الانفِرادِ |
ومَهْما وجدْتَ الصَّديقَ الصَّدُوقَ |
فَمكِّنْ لهُ في صَميمِ الفُؤادِ |
وقد انفرد أبو حيان الأندلسي بنفسه معتبراً أنها أوفق صديق له، وها هو يقول:
لَزِمتُ انفِرادي إِذ قَطَعتُ العَلائِقا |
وَجالَستُ مِن ذاتي الصَديقَ الموافقا |
وَآنَسني فكري لِبُعدي عَن الوَرى |
فَلَست إِلى شَيءٍ سِوى العلمِ تائِقا(2) |
ويدعونا إبراهيم الأحدب إلى مؤاخاة الصديق الذي يخلص الود لنا. أما إذا هجرنا، فلنهجره هجراً جميلاً، ويقول:
آخِ الصديق إذا أصفاك خلّته(3) |
ولم يشبْ صدقه شيء من الكذبِ |
ولا تمل عن وفاه ما وفى لك |
إن رأيت حبل هواه غير مقتضب(4) |
واهجره هجراً جميلاً إن رأيت له قبيح |
وصل لأهل الزيغ(5) والريب |
ويرى ابن الكيزاني أن الصديق هو الذي يصدقك وده في السراء والضراء، وليس الذي يتركك حين الشدة، فيقول:
تخيّرْ لنفسك من تصطفيه |
ولا تُدْنينَّ إِليكَ اللّئاما |
فليس الصَّديق صديقَ الرَّخاء |
ولكن إِذا قَعَدَ الدهر قاما |
تَنامُ وهمَّته في الذي يَهُمُّكَ |
لا يَستلَذُّ المناما |
وكم ضاحكٍ لك أَحشاؤُه |
تمَنَّاك أَن لَقِيتَ الحِماما(6) |
ويدعو ابن مجير الأندلسي إلى أن لا ننقلب على الصديق، حتى وإن انقلب علينا:
إذا ما الصديق نبا(7) |
ودُّه فلا يكُ ودُّك بالمنقلب |
وعاتِبه لكن رويداً كما تعضُّ |
على الطفلِ عند اللعب |
وقد عملَ القاضي الفاضل بنصيحة ابن مجير، فأخلص الود لصديقه رغم خداعه له، لكن صديقه خيب ظنه، وهو يقول:
وَأَمّا سوءُ حَظّي مِن صَديقي |
فَذاكَ مِنَ الرُسومِ المُستَقِرَّه |
وَخِلٍّ كانَ مودِعَ كُلِّ سِرٍّ |
فَكُنتُ أَصونُهُ وَأَصونُ سِرَّه |
حَفِظتُ عُهودَهُ وَأَضاعَ عَهدي |
وَلَم يَكُ لي بِطُرْقِ الغَدرِ خِبرَه |
وَكَم آمَنتُهُ خَدعي وَمَكري |
وَلَم آمَن خَديعَتَهُ وَمَكرَه |
بَذَلتُ لَهُ عَلى العِلاّتِ خَيري |
وَلَكِن ما كَفاني اللَّهُ شَرَّه |
ولأن صديقك أعلم بسرك من غيره، فإن خطره أكبر، يقول الأبيوردي:
لا تُخْلُدَنَّ إِلى الصّديقِ فإنّهُ بِكَ |
مِنْ عَدوِّكَ في المَضَرَّةِ أعْلَمُ |
يَلقاكَ والعسَلُ المُصَفَّى يُجْتَنَى |
مِن قَولِهِ ومنَ الفَعالِ العَلْقَمُ(8) |
أما المتشائم دائماً، ابن الرومي، فهو يكره الصديق، ويبرر كرهه له قائلاً:
أما الصديق فلا أُحب لقاءهُ حذرَ القِلى(9) |
وكراهة الإعوار(10) |
وأرى العدوّ قذىً(11) |
فأكره قربهُ فهجرت هذا الخَلق عن إعذار |
أرني صديقاً لا ينوء بسقطةٍ |
من عيبه في قدر صدر نهار |
أرني الذي عاشرتَهُ فوجدتهُ |
متغاضياً لك عن أقل عثار(12) |
ونعود إلى أبي العتاهية الذي يحدد لنا الميزان في العلاقة مع الصديق، فيقول:
أَقِلل زِيارَتَكَ الصَديقَ |
وَلا تُطِل هِجرانَهُ فَيَلِجَّ في هِجرانِهِ |
وَاعلَم بِأَنَّكَ لا تُلائِمُ كُلَّ |
مَن أَلقى إِلَيكَ تَلَهُّفاً بِلِسانِهِ |
إِنَّ الصديق يَلِجُّ في غِشيانِهِ |
لِصَديقِهِ فَيَمَلُّ مِن غِشيانِهِ |
حَتّى تَراهُ بَعدَ طولِ مَسَرَّةٍ |
بِمَكانِهِ مُستَثقِلاً لِمَكانِهِ |
وَأَخَفُّ ما يُلفى الفَتى ثِقلاً عَلى |
إِخوانِهِ ما كَفَّ عَن إِخوانِهِ |
وَإِذا تَوانى عَن صِيانَةِ نَفسِهِ |
رَجُلٌ تُنُقِّصَ وَاستُخِفَّ بِشانِهِ |
وهذه أبيات أخرى له أيضاً، تبين كره الصديق:
إذا انقلبَ الصديقُ غدا |
عدواً مُبيناً والأمورُ إلى انقلابِ |
ولو كان الكثيرُ يَطيبُ كانتْ |
مُصاحبةُ الكثير من الصوابِ |
ولكن قلَّ ما استكثرتَ إلاّ |
سقطتَ على ذئابٍ في ثيابِ |
فدعْ عنك الكثير فكم |
كثيرٍ يُعافُ وكم قليلٍ مُستطابِ |
وفي الختام، فإن أفضل صديق برأي إسحاق الموصلي هو الذي لا يكلف صاحبه شيئاً:
نِعمَ الصديقُ صديقٌ لا يكلِّفُني |
ذَبحَ الدجاجِ ولا شَيَّ الفراريجِ |
يرضى بِلونَينِ من كُشكٍ ومن عَدسٍ |
وإن تَشهَّى فزيتونٌ بطسُّوجِ(13) |
(1) المماذق: غير المخلص في الود.
(2) التائق: المشتاق.
(3) الخلّة: الصداقة.
(4) المقتضب: المقطوع.
(5) الزيغ: الشك.
(6) الحمام: الموت.
(7) نبا: تباعدَ.
(8) العلقم: كل شيء مُر الطعم.
(9) القلى: البغض
(10) الإعوار: الشك.
(11) القذى: ما يقع في العين من أشياء فيؤذيها
(12) العثار: الشر أو المكروه.
(13) الطسوج: من أنواع الطعام.