أ. أميرة برغل*
الشباب هم أمل الأمة وربيعها والدم الذي يتدفق في شرايينها. وبقدر ما يمتلكون من حيوية ونشاط بقدر ما يبشرّون بغد واعد للأجيال القادمة. وحيوية الشباب وفاعليتهم في مجتمعاتهم رهن بصحتهم الجسدية العقلية والنفسية. وليس أكثر من الهواجس والهموم يؤثر على هذه الصحة. فهل تأثير الهموم على الشباب دوماً سلبي أم أن لها في بعض الأحيان تأثيراً إيجابياً؟ وإلى أي مدى تلعب البيئة دوراً في صناعة تلك الهموم لدى الشباب، في زماننا الحاضر؟ وما هي الأدوار السلبية والإيجابية التي تلعبها البيئة في صناعة هذه الهموم؟ هذا ما سوف نحاول التطرق إليه تباعاً في هذه المقالة.
أولاً: ما هي البيئة؟
يُنظر اليوم إلى البيئة (Environment) على أنها مفهوم متّسع في الزمان والمكان، فهي إجمالي الأشياء التي تحيط بنا وتؤثر على وجود الكائنات الحيَّة على سطح الأرض، وعليه، فللبيئة تأثير قطعي على مجريات حياة الكائنات جميعها وعلى رأسها الإنسان.
ثانياً: هموم الشباب وأسبابها
لكل إنسان هموم يحملها في صدره، فإن الدنيا، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام "دارٌ بالبلاء محفوفة"1.
والهموم بعضها دنيوي وبعضها أخروي، ولكل منها أسبابها وظروفها. ولكنها تختلف من شريحة بشرية إلى أخرى تبعاً للجنس والسن والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها هذه الشرائح. وللشباب، كما لبقية شرائح المجتمع، همومهم أيضاً، بل قد تكون هموم الشباب أكثر اتساعاً من هموم الشرائح الأخرى.
فالشاب، وهو في ذروة تفتح قواه العقلية والروحية والشهوية، يعيش صراعات كثيرة وأمامه استحقاقات كبيرة، ومن أهمّها أربعة:
- الاستحقاق الأول: صورته عن نفسه؛ كيف يبدو للآخرين، هل هو شخص وسيم أم لا؟ هل يبدو خفيف الظل أم لا؟ هل لديه ما ينفِّر الآخرين؟
- الاستحقاق الثاني: مبادئه ومعتقداته؛ هل معتقدات أهله سليمة؟ لماذا عليه أن يلتزم بعبادات وأعراف معينة؟ هل الأعراف والتقاليد الاجتماعية منطقية؟ ما هي الرسالة التي عليه أن يتبناها في حياته؟
- الاستحقاق الثالث: علاقته بالجنس الآخر؛ كيف يمكنه التعامل مع ما يشعر به من ميول تجاه الجنس الآخر؟ فهل سيكون مقبولاً من الجنس الآخر؟ هل يمكن أن يُستغل أو يُخدع من قبل هذا الجنس؟... متى سيجد الشريك المناسب؟
- الاستحقاق الرابع: مكانته الاجتماعية واستقلاله الاقتصادي؛ متى سيتمكن من أن يستقل اقتصادياً ويكون مالكاً لنفسه؟ وهل سيتمكن من إنهاء دراسته بنجاح؟ وكم من الوقت والجهد يحتاج لذلك؟ وهل إذا أنهى دراسته سيجد مهنة لائقة؟ وهل سيكون لديه دخل كافٍ؟
إن هذه الأسئلة وغيرها تدور في ذهن كل شاب، في حال لم يجد لها أجوبة شافية، فسوف تشكل هموماً حقيقية تنغص عليه عيشه، صباحاً ومساءً.
ثالثاً: دور البيئة في صناعة هموم الشباب
على ضوء ما أوردناه من تعريف البيئة وبيناه حول عمر الشباب وما يكتنفه من استحقاقات، يتبين لنا كم أن للبيئة التي يعيش فيها الشاب من دور كبير في صناعة همومه أو تبديدها. فنمط الحياة السائد في المجتمع، المقياس الذي يُصَّنف به الناس، الأعراف التي تحكم مراسيم الزواج وغيره، القوانين المتعلقة بالدراسات الجامعية، النظرة إلى المهن وأهميتها، مقاييس النجاح والفشل، مقاييس الرفعة والوضاعة،...إلخ.
وقبل كل شيء أسرته التي يعيش في داخلها...! هل هي أسرة آمنة؟ هل العلاقة بين والديه سوية؟ هل يتعلم من خلالها نمط التفكير الصحيح والمتوازن؟ هل حاجاته الأساس مؤمنة؟ كيف يحلون مشاكلهم؟ ما هي المعادلة التي يتعاملون فيها مع الحياة الدنيا ومع الحياة الآخرة؟
لكل هذه الأمور أثر كبير، على بناء المنظومة الفكرية والوجدانية للشباب وتشكيل نظرتهم للوجود والحياة وبالتالي على نسج أحلامهم وتحديد أهدافهم وطموحاتهم.
ولا شك في أن كل طموح، حتى تحققه، يشكل لصاحبه همّاً، يأسر تفكيره ويشغل باله. إلاَّ أن الهموم ليست بالضرورة عاملاً سلبياً؛ فهي، وإن كانت في بعض المرات محبطة، يمكنها أن تكون في مرات أخرى محفّزة.
ذلك أن الإنسان بحاجة، من أجل استمرارية حركته في الحياة، إلى قوة دفع، لهموم قد تُشكل، في ظروف معينة، هذه القوة.
وفيما يلي سوف نتناول تباعاً الدورين السلبي والإيجابي للبيئة، في صناعة الهموم لدى الشباب المسلم في مجتمعاتنا المعاصرة.
رابعاً: دور البيئة السلبي في صناعة الهموم لدى الشباب المسلم في عصرنا الحاضر
اتّسع دور البيئة السلبي في صناعة الهموم لدى الشباب المسلم مع اتساع دائرة التواصل السريع بين المجتمعات المختلفة بالشكل الذي جعل من العالم قرية صغيرة.
وحيث إن للمعسكر الغربي اليد الطولى في السيطرة على الإعلام ووسائل الاتصال الإلكتروني في العالم فقد تدفقت معايير هذا المعسكر إلى عقول الشباب والشابات بقوة، وقد أدى ذلك إلى اختلال منظومة القيم وتضاربها لديهم.
ومما زاد في حيرة الشباب وصراعاتهم، هذه الهوة الكبيرة بين ما تروجه أمامهم وسائل الإعلام وبين الفرص الواقعية المتاحة لهم. فالشاب "المحترم العصري" عليه أن يتمتع بمقاييس جمالية معينة على صعيد الشكل الخارجي، وأن يكون لديه أسلوب حياة خاص به (Life Style) منسجم مع ما هو سائد في الإعلام، وأن يجاري ثقافة الاستهلاك السائدة: سيارة حديثة ومنزل فخم وملابس ذات ماركات مشهورة، ناهيك عن امتلاك أحدث وسائل التواصل المتعددة (آيفون – آيباد -...) وإلاَّ اتُّهم بالرجعية والمحدودية...
أما بخصوص المستقبل والشريك، فالمشكلة أكثر تعقيداً، فمن ليس له حظ من تحصيل دراساته العليا حتى النهاية أو من لم ينحدر من عائلة متمكِّنة اقتصادياً، ليس أمامه إلاَّ أحد ثلاث:
1 - إمّا أن يحصِّل المال بطريقة غير شرعية أو قانونية.
2 - وإما أن يستدين ويراكم عليه الديون وينام على هم ويستفيق على آخر.
3 - وإما أن ينزوي ويصبح نكرة في المجتمع. وهنا تأتي معضلته مع الشريك، فإذا كان الشريك طامعاً في حياة مترفة، فالشجار والخلاف والطلاق.
هذا، عن الشباب، أما الشابّات، فهمومهن ليست بأقل، حيث يحتلّ الجمال الشكلي حيزاً كبيراً في مقاييس التفاضل بين الفتيات. وأمام سيل الإغراءات والدعايات تتساءل الشابة: هل تنهي دراساتها الجامعية؟ وفي حال أنهت دراساتها الجامعية هل تتزوج شاباً في مقتبل العمر ما زال مكافحاً وتعمل معه كي يحتلا مكانةً مرموقةً في المجتمع؟ هل تنوء تحت ضغط العمل داخل المنزل وخارجه حتى تؤمن لأسرتها فرص حياة أفضل؟ أم تقنع بحياة متواضعة بالرغم من امتلاكها مؤهلات عالية؟
ثمَّ، إذا عملت، هل تنفق نصف مدخولها (ولعله أكثر) على شكلها وقوامها؟ أم تنفقه على أسرتها وأولادها؟ هل، عندما تخط السنون على وجهها معالم الكبر، ستحظى بالمكانة نفسها في أسرتها وعملها؟ أم سيتنكرون لها؟ هل تستمع إلى نداء دينها وقيمها فتتعامل مع مَنْ حولها بالتقوى والإحسان أم تستمع لنصائح صديقاتها اللاتي يؤكدن لها أن لا أحد "بيبيّن معه شيء...؟" هذه هي بعض من هموم الشباب المسلم المعاصر في بيئة معولمة تكنولوجياً متخلفة سياسياً واجتماعياً...!
خامساً: الدور الإيجابي للبيئة في عصرنا الحاضر
إلاَّ أن هذا الدور السلبي الذي ذكرناه آنفاً يقابله دور إيجابي آخر وذلك
﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 37).
فهذا المخطط الخبيث الذي يتسلل إلى عقول شبابنا وأفكارهم من خلال ما يمارس عليهم من حرب ناعمة يواجهه مخطط آخر يتمثل في بروز تيار إسلامي أصيل يقابل المفاهيم الغربية القائمة على النزعة المادية والفردية بمفاهيم إسلامية أصيلة قائمة على نشر الفكر المحمدي الأصيل المبني على النزعة المعنوية والإنسانية، وتعتبر الحياة فرصة للتكامل والجهاد ولإحقاق الحق وإبطال الباطل.
وقد أنتج هذا التيار الإسلامي الأصيل في لبنان مقاومة إسلامية صلبة في وجه العدو الصهيوني، استطاعت أن توجه هموم الشباب نحو أهداف كبيرة وتستنقذهم من مستنقع الحياة اللهوية الاستهلاكية إلى حياة جدية فاعلة غير منفعلة، حياة تليق بمن يؤمل منهم أن يكونوا خلفاء لله على وجه الأرض.
كما وجذبت أنظارهم (هذه المقاومة) نحو نماذج قدوة فرضوا على العالم وجودهم وشهرتهم عن طريق الإبداع في ميادين العلم وسوح الجهاد والأعمال الإنسانية أمثال شيخ المقاومة وسيدها وعمادها والاستشهاديين والشهداء وزوجاتهم وأمهاتهم.
لقد استطاع قادة هذا التيار الإسلامي الأصيل أن يقلبوا السحر على الساحر فيستعملوا الأدوات التكنولوجية نفسها في التواصل من أجل نشر الإسلام المحمدي الأصيل وتوعية الشباب بنقاط قوته وبأن التخلف الموجود ليس قدراً وما تدعو إليه وسائل الإعلام وتقدمه من نماذج تحركه مافيات الشركات التجارية العابرة للقارات، ليس إلّا.
* هموم إيجابية
إنّ مثل هذه البيئة النابضة بروح الجهاد ولدت لدى الشباب هموماً جديدة، ولكنها هموم إيجابية استنهضت هممهم ودفعتهم نحو العطاء والإبداع.
لقد أثبت ذلك، على أرض الواقع، قسم كبير من شبابنا المجاهد الغيور، إنْ في سوح العلم والعمل أو في سوح العطاء والجهاد، فأذهلوا العالم بما طوروه من وسائل اتصال وتقنيات في مواجهة العدو ورصد حركته، وما طائرة أيوب إلاَّ نموذج عن النتاج الإيجابي لما يعيشونه من هموم تجاه بيئتهم.
وكذلك فعل قسم كبير من شاباتنا المجاهدات، اللاتي استطعن، بالرغم من حمأة الصراع المحموم بين فتيات العصر، مواصلة تعلمهن بحماس وشاركن في أعمال رسالية وإنسانية كثيرة استطعن من خلالها رفع مستوى صمود الأمة وبلسمة جراحها في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
ختاماً... مهما يكن للبيئة من أثر في صناعة هموم الشباب فإن تحويل هذه الهموم إلى دوافع إيجابية رهن بما نُشّئ عليه كل شاب على صعيد المعتقد والتوجهات وبما يملكه من قناعات عقلية وإرادة ذاتية، ولا يخفى كم لأسرته من دور في ذلك.
* باحثة إسلامية في الشأن التربوي والأسري.
1.نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج2، الخطبة 226.