الشيخ سامر توفيق عجمي(*)
تشكّل الأطروحة المهدويّة قطب رحى الحراك الشيعيّ عبر التاريخ. وتواجه هذه الأطروحة رزمة من الأسئلة الكثيرة، منها ما يتولّد في سياق طبيعيّ لحركة العقل البشريّ في خطِّ علاقته بالقضايا العقائديّة والتاريخيّة، ومنها ما يأتي كشبهات في سياق نظريّة المؤامرة وإرادة تشويه هذه العقيدة والتشويش عليها. والأسئلة التي يمكن طرحها حول المهدويّة كثيرة جدّاً، توقّفنا عند ثلاثة منها.
•السؤال الأول: ما المعالم العامّة للدولة المهدويّة؟
والإجابة عن هذا السؤال باختصار شديد، في ضوء النصوص الدينيّة فقط؛ لأنّ الدولة المهدويّة من المستقبليّات التي لا يدركها الإنسان إلّا بواسطة المنهج النقليّ.
أوّلاً: دولة دينيّة: تتميّز الدولة المهدويّة بأنّها دولة دينيّة، والدين الرسميّ، بل الحصريّ والوحيد لها هو الإسلام. فلا مكان للتعددية الدينيّة فيها؛ لغلبة الإسلام وظهوره على الأديان كافة، كما ورد في الروايات: "... لا يبقى في المشارق والمغارب أحد إلّا وحّد الله"(1).
ثانياً: دولة عالميّة: المقصود بعالميّتها أنّه لن تكون بقعة جغرافيّة خارج سلطة الدولة المهدويّة.
ثالثاً: دولة الواقع: بمعنى أنّها دولة يحكم فيها الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في ضوء معطيات الواقع كما هو، لا الظاهر كما يبدو. وقد ورد في الروايات: "يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه، ويخبر كلّ قوم بما استبطنوه"(2). وعلم الإمام مصيب للواقع؛ لمكان عصمته وحضوريّته.
رابعاً: دولة التحوّل الأنفسيّ: إنّها دولة تحوّل المحتوى الباطنيّ للإنسان، بمعنى أنّ حركة التغيير في الدولة المهدويّة تطال داخل النفس البشريّة وليس النظام الاجتماعيّ العامّ فقط، كما صرّحت الآية القرآنية: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11). فهي دولة تصل فيها البشريّة في خطّ تطوّرها إلى قمّة كمال المعرفة والأخلاق.
ففي الروايات: "وتؤتَون الحكمة في زمانه"(3)، "ويقذف في قلوب المؤمنين العلم"(4)، "إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد، فجمع به عقولهم، وأكمل به أخلاقهم"(5).
وبالتالي تكون ثمرة هذا التحوّل الداخليّ من التقوى والاستغفار و...، هي التغيّر في النظام الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ، والتربويّ، والإعلاميّ، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ (الأعراف: 96)، ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ (نوح: 10-12).
خامساً: دولة العدل: يعمد القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف في الجانب السلبيّ إلى محاربة مظاهر المنكر كلّها، والظلم، والفساد من خلال قتل الفاسدين، وإزالة عناصر الفساد كلّها من المجتمع. ويحقّق في الجانب الإيجابيّ القيم العليا؛ كالعدالة، والقسط، والمعروف، ويقوم بالحقّ، ولا يبقى فرد، أو جماعة، أو قبيلة، أو منطقة جغرافيّة إلّا وقد طبّق نظام العدالة العامّ عليهم. فيأخذ كل إنسان الحقّ المقسوم له حسب نظام العدالة، كما ورد في الروايات: "يعطي كلّ نفس حقّها"(6)، و"إذا قام قائم أهل البيت قَسَم بالسويّة، وعَدَل بالرعيّة"(7). وبالتالي، يسدّ جميع حاجات الناس ويشبعها، فيعمّ الغنى، والصحّة، والأمن... كما اتّضح من الآيات السابقة، وكما ورد في الروايات: "يخرج المهديّ في أمّتي، يبعثه الله غياثاً للناس، تنعم الأمّة، وتعيش الماشية، وتُخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً"(8)، و"إذا قام القائم، أذهب الله عن كلّ مؤمن العاهة، وردَّ إليه قوّته"(9)، "وأُلقي في ذلك الزمان الأمان على الأرض، فلا يضرّ شيء شيئاً، ولا يخاف شيء من شيء، ثمّ تكون الهوام والمواشي بين الناس فلا يؤذي بعضهم بعضاً"(10).
•السؤال الثاني: هل سيأتي بدينٍ جديد؛ أي هل ستكون النهضة المهدويّة حركة تغييريّة تنسخ الأديان السابقة كلّها، ومنها الإسلام؟
انطلق هذا السؤال من وجهة نظر طرحتها جماعة، ويروّج لها الوهابيّة، وتؤول بعض الروايات كرواية أبي حمزة الثماليّ عن الإمام الباقر عليه السلام: "لو قد خرج قائم آل محمّد... يقوم بأمر جديد، وسنّة جديدة، وقضاء جديد"(11)، وفي بعض الروايات: "كتاب جديد"(12). وسنكتفي في الجواب بإثارة بعض النقاط: فتارةً ننطلق لنستفيد أنّ متن هذه الروايات يدلّ فعلاً على أنّ القائم يأتي بدين جديد، وأخرى عدم التسليم بذلك:
أولاً: مخالفة النصّ والقرآن
بناءً على الوجه الأوّل، بإمكاننا أن نسقط هذه الروايات عن الاعتبار والقيمة، بتطبيق قواعد محاكمة حقّانيّة مضمون المتن الروائيّ؛ وذلك لأنّ هذه الروايات -بناءً على دلالتها على كون القائم يأتي بدين جديد ينسخ الإسلام- تخالف النصوص القطعيّة من القرآن والحديث، وروحها ومضمونها. وقد ورد في الروايات الصحيحة أنّ "كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"(13)، أو "فاضربوا به عرض الجدار".
أمّا مخالفتها للقرآن، فلأنّه يؤكّد أنّ الإسلام هو دين الحقّ الذي سيظهره الله تعالى على جميع الأديان، يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33). وهذا الظهور لدين الإسلام يكون في الدولة المهدويّة، كما تقدّم.
كما يؤكّد القرآن الكريم أنّ النبيّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم هو ﴿خَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: 40)، وكذلك الحديث المشهور: "لا نبيّ بعدي". ومن المفترض أن يكون الذي يأتي بدين جديد، وشريعة وكتاب جديدَين، نبيّاً ورسولاً، والمهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إمامٌ يخلف جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ نظام الإمامة يقتضي أن تكون الإمامة حركة استمراريّة لدين النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً: إعادة إحياء الدين
إنّ هذه الروايات لا تدلّ أبداً على إتيان القائم بدين جديد؛ لأنّ لسان الروايات يتحدّث عن أمرٍ، وسنّة، وقضاء، وكتاب، لا عن دين، وهذا -أي التجديد في الأمر، والسنّة، والقضاء، والكتاب- شيء طبيعيّ، ومتوقّع بلحاظ أمور عدّة:
1- إنّ النبيّ احتفظ ببعض التشريعات عند أوصيائه ولم يبلّغها إلى عامّة الناس، وهناك تشريعات اختصّ بها الوليّ الخاتم عجل الله تعالى فرجه الشريف تتناسب مع عصر الظهور.
2- إنّ بعضاً من الأحكام والتشريعات التي بلغها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياؤه قد تمّ تعطيل العمل بها عبر التاريخ.
3- إنّ الدين الموجود بين أيدي الناس فيه الكثير من الاجتهادات والأفهام المختلفة في تفسير الدين وفهم نصوصه، أمّا الإمام فيحكم بالدين الواقعيّ، كما تقدّم، ولذا يرى الناس أنّها سنّة جديدة، وهي ليست إلّا إحياءً للدين الأصيل.
4- إنّ الفارق الزمنيّ بين الإسلام وعصر الظهور أدّى إلى اندراس الإسلام في الواقع الاجتماعيّ العامّ للمسلمين. وفي الحقيقة، يمكن اعتبار الكتاب والسنّة بحكم الميّت في المجتمعات الإسلاميّة، فالمجتمعات عاشت وتعيش الغربة عن الإسلام، وهو مفاد قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً"(14).
والقائم عجل الله تعالى فرجه الشريف يظهر لإحياء الدين، ونفخ الحياة في ما مات واندرس من تعاليم الكتاب والسنّة في الواقع الاجتماعيّ العامّ للناس. فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا قام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف دعا الناس إلى الإسلام جديداً، وهداهم إلى أمر قد دثر، فضلَّ عنه الجمهور، وإنّما سمّي القائم مهديّاً؛ لأنّه يهدي إلى أمر قد ضلّوا عنه، وسمّي بالقائم لقيامه بالحقّ"(15).
•السؤال الثالث: ما دور المرأة في الدولة المهدويّة؟
في الجواب عن هذا السؤال ننطلق من مسلَّمات قرآنيّة عدّة:
أوّلاً: إنّ المرأة والرجل مخلوقان من نفس واحدة.
ثانياً: إنّ الخطاب الإلهيّ مشترك بين الرجل والمرأة فيما يتعلّق بعمليّة بناء الذات، وحركة إصلاح المجتمع، وتغييره، واستنهاضه. فالمرأة مكلّفة كما الرجل، والقاعدة هي اشتراك الأحكام، إلّا إذا كان ثمّة استثناءات من الطرفين لخصوصيّات تقتضيها طبيعة هُويّة ووظيفة كلّ منهما.
ثالثاً: إنّه لا فرق بين رجل وامرأة إلّا بالتقوى.
وهذه الثوابت العامّة تجري أيضاً في زمن الدولة العالميّة للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويوجد أيضاً بعض النصوص التي ترسم لنا أنّ للمرأة دوراً، وتشير إليه، وإن كنّا لا نملك ما يكفي من النصوص لإعطائنا صورة كاملة عن دورها. وعلى كلّ حال تفيد النصوص الروائيّة التالي:
1- الخمسون امرأة: إنّ المرأة تكون من جملة الـ(313) وهم الأصحاب الخلّص للإمام وقادة الحراك المهدويّ، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "ويجيء، والله، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فيهم خمسون امرأة"(16). وإذا قلنا إنّ هؤلاء الأصحاب يحملون الاسم الأعظم، فإنّ كلّ واحدة من هؤلاء النساء تحمل اسم الله الأعظم، ويكون لها قدرات خاصّة بإذن الله تعالى.
وكذلك إذا قلنا إنّ هؤلاء الأصحاب هم قادة أقاليم الدولة المهدويّة، فهذا يعني أنّ الدولة المهدويّة ستكون منقسمة إلى 313 إقليماً، 50 إقليماً منها تحكمه نساء.
2- دور استشفائيّ: إنّ المرأة يكون لها دور استشفائيّ وتمريضيّ في الحركة المهدويّة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "يكون مع القائم ثلاث عشرة امرأة، قلتُ: وما يُصنع بهنّ؟ قال: يُداوينَ الجرحى ويقمنَ على المرضى، كما كُنَّ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(71). والحقّ، إنّ هذه الوظيفة من باب ذكر أبرز المصاديق التي كانت متدوالة وليست من باب الحصر.
3- الرجعة: يفيد بعض الأخبار أنّ بعض النساء يخرجن من قبورهنّ، وعددهنّ تسع، وهذا يعني أنّ الرجعة غير مختصّة بالرجال(18).
جعلنا الله من أنصاره.
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالميّة - فرع لبنان.
1.تفسير العياشي، ج1، ص183.
2.الإرشاد، المفيد، ج2، ص386.
3.الغيبة، النعماني، ص245.
4.النجم الثاقب، الطبرسي، ص310.
5.مكيال المكارم، الأصفهاني، ج1، ص175.
6.الكافي، الكليني، ج1، ص398.
7.الغيبة، (م.س)، ص243.
8.عقد الدرر في أخبار المنتظر، المقدسي، ص155.
9.بحار الأنوار، المجلسي، ج52، ص364.
10.سعد السعود، ابن طاووس، ص34.
11.الغيبة، (م.س)، ج1، ص238.
12.(م.ن)، ص269.
13.الكافي، (م.س)، ج1، ص69.
14.الغيبة، (م.س)، ج1، ص308.
15.الإرشاد، (م.س)، ج2، ص383.
16.بحار الأنوار، (م.س)، ج52، ص223.
17.دلائل الإمامة، الطبري، ص259.
18.إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، الحرّ العاملي، ج3، ص575.