نسرين إدريس قازان
اسم الأم: رسمية علي سلهب
محل وتاريخ الولادة: بريتال 18 ـ2-1970
الوضع العائلي: متأهل
محل وتاريخ الاستشهاد: مزارع شبعا 28-6-2005
وعند كل وهدٍ وتلٍّ ذكرى له.. فالهواء حفظ عبقَ أنفاسه، والتراب أَلِفَ صوت مداسه، هو الذي تعرفه كل المحاور، وكل القرى التي مرّ بها مسلّماً.. من كان مثله عاش عمره والبندقية، تعبَ منه التعب ولم يتعب، ولكن كسر قلبه طول الانتظار، فأغلب الرفاق هاجروا، وبقي وحيداً كنسرٍ يربضُ على التلال، ينظر إلى فلسطين تارة، والسماء تارة أخرى. وعندما رأى جحافل العدو تفرُّ ذعراً في أيار من العام 2000، بكى مرتين، مرة من الفرحة، وأخرى على حسرة البقاء.
* فتىً حمل السلاح
قلّة هم من يعرفون اسمه الحقيقي "ملحم"، فلقبه الجهادي " الحاج جابر" لازمه طوال مسيرته الجهادية وانسحب على حياته الخاصة. ولكن لاسمه الحقيقي قصة لافتة، فأثناء حمل أمه به، رأت عمته في الرؤيا، أن هناك مولوداً في العائلة سيولد واسمه "ملحم" وسيكون ممهداً لدولة صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه، وما إن أبصرت عيناه النور حتى استبشرت العائلة به خيراً.
ترعرع ملحم في بيتٍ متدين، فوالداه حرصا كل الحرص على تنشئة أولادهما تنشئة إسلامية صحيحة، وزرعا في نفوسهم محبة أهل البيت عليهم السلام. وفي أحياء وأزقة بلدته بريتال الفقيرة والمستضعفة عاش ملحم عمره الصغير الذي سرعان ما وعى أثر الاجتياح الإسرائيلي، فما إن دخلت القوات الإسرائيلية إلى المناطق اللبنانية، رأى الشباب من أبناء بلدته يحملون السلاح للذود عن القرى، بالعتاد القليل والمتواضع ويلتحقون بالدورات العسكرية السريعة، فكان في الرابعة عشرة من عمره حينما حمل السلاح لأول مرة، ومنذ ذلك الحين لم يترك البندقية، فقلّب أيامه بين المحاور والدورات العسكرية المختلفة والعالية المستوى. كان ملحم لا ينطلق إلى مكان قبل أن يزرع قبلة على يد أمه ليسمع منها كلمة الرضا، فأكثر ما كان يخشاه أن تكون متضايقة وتحمل في قلبها همّاً، فهو صاحب القلب الرقيق والحنون على أهله.
* علمٌ وجهاد
اهتمّ ملحم كثيراً بتثقيف نفسه إلى جانب التأهيل العسكري الذي خضع له، فقد واكب العديد من الدورات الثقافية والدروس والمحاضرات، فكان رجلاً يعشقُ مصاحبة الكتاب، ما جعله مطلعاً على الأمور إلى درجة لا يُناقش بأمر إلا وقد أحاط به، وقد لفت نظر من حوله بقدرته على التحليل، ورؤية الأمور من زواياها المتعددة بوضوح.
خدمة الناس
لم تكن الأيام التي يقضيها ملحم في بلدته أثناء إجازته كثيرة، ولكنه كان يستغلها لخدمة الناس والسؤال عن احتياجاتهم. كما كان مبادراً للعمل معهم، وكان يسعى إلى مساعدتهم مادياً، ولو من جيبه الخاص. فهو لم يكن يقتسمُ ماله مع غيره، بل كان يترك لنفسه القليل الذي يحتاجه لقوت يومه. فمن كان مثله يسعى إلى الآخرة سعي المشتاق إلى حبيبه، كيف له أن تلهيه الدنيا بزخارفها عن هدفه الحقيقي؟ فكان يتألم للناس الذين يقضون أيامهم في تعمير الدنيا وهم عن الآخرة غافلون! قد اكتفى بغرفةٍ واحدةٍ، اقتطعها من منزل ذويه، سكنها وزوجته منذ العام 1992، ليعيشا معاً حياةً بسيطةً مفعمةً بالرضا والقناعة والسعادة.
* حنين إلى الرفاق
كانت المحاور المتقدمة سَكَن الحاج جابر الحقيقي لأكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، شارك خلالها بالعديد من العمليات العسكرية، والمهمات الجهادية الفائقة الحساسية، وكلّل عمله بالإخلاص والتفاني. وكان دقيقاً جداً في تنفيذ عمله، ولا يتهاون بالوقت المطلوب لذلك، فيبادر إلى تعلّم أي شيء يمكّنهُ من عمله الذي أحبَّه كثيراً. وفي كثير من الأحيان كان يشتري بعض العتاد من ماله الخاص، حتى أن بندقيته التي كانت تلازمه في عمله كانت ملكاً خاصاً له.هناك بين المواقع التي ظنّها العدو الإسرائيلي حصينة، كان يمشي ورفاقه المجاهدين وكأنهم في نزهةٍ صيفية، فالليلُ أُضيء من بريق عيونهم، والنهاراتُ حفظت عن ظهر قلب جهادهم. ولكم ارتاح "الحاج جابر" تحت ظلال الأشجار، يستذكرُ الراحلين من رفاقه، ويئنّ شوقاً لهم. هذا الرجل الذي عرج إلى الله عز وجل بعبوديته، دعا بكل إخلاصٍ أن لا يؤخر الله رحيله، حتى كانت تلك الليلة التي رأى فيها في منامه أنه خاض ومجموعة من المجاهدين مواجهة عنيفة مع العدو الصهيوني، وقد استولى العدو على ثلاث بنادق للمقاومة، ما لبث المقاومون أن استعادوها، ففتح عينيه لاهثاً، متعرّقاً مضطرباً وكأنه كان في المواجهة طوال الليل.
* مواجهات كلّلت بالاستشهاد
أشرق وجه الحاج جابر بنورٍ، واستبشر بما رآه خيراً، وقبل أن ينطلق إلى عمله، سلّم زوجته ورقةً دوّن فيها الحقوق المالية المتوجبة عليه. وكل من رآه في مركز عمله لمح بريقاً غريباً في عينيه. وبالقرب من مزارع شبعا، واجه الحاج جابر مجموعة من النخبة في الجيش الإسرائيلي، واستمرت المواجهات لساعات عدة. وقد وضع الحاج جابر خطةً جعلت العدو يظنُّ أنه يواجه مجموعتين من المقاومين، فهيأ بذلك طريق انسحاب آمن لرفاقه. وأُربكَ العدو. وبقي الحاج جابر في ساحة المعركة حتى قتل جندياً إسرائيلياً برتبة ضابط وجرح سبعة جنود آخرين، ثمّ استشهد. وبقي جثمانه الطاهر ثلاثة أيام حيث سقط شهيداً قبل أن يأسره العدو الصهيوني ويبقيه عنده لشهرين وعشرة أيام، ليعود بعدها إلى مسقط رأسه ويرتاح في المنزل الذي عمّره بالخير والعبادة وتزوّد له خير الزاد.وارتاح الحاج بعد سنوات خشي فيها من طول البقاء، وظلت كلماته محفورة في قلب كل مجاهد: "أخي المجاهد: لا يسعني إلاّ أن أستميحك عذراً لأني سبقتك في نيل ما أحببنا، وأدعو لك ربي أن يرزقك الشهادة قتلاً في سبيله".