نجوى رعد
حمل قلمه بعد ان افترشت أوراقُه الممزّقةُ أنحاءَ غرفتهِ الصغيرة، وضوء الشمعة يلاحق ظلّه الشاب راسماً حدود المكان ذهاباً وإياباً. جلس واضعاً رأسه بين يديه، ثم انتفض قائلاً: "ليس لي إلّا الشيخ راغب". خطّ رسالته، ناحتاً سطورها بدم عروقه، لتخطَّ مستقبله الذي طالما تمناه.
بسم الله الرحمن الرحيم
صاحب الفضيلة الموقر الشيخ راغب حرب (حفظك الله).
بعد تقبيل أياديك الطاهرة، أحبّ أن أسألك كيف يصبح الإنسان شهيداً حتى يكون هو وأبيه1 وأمه في الجنة؟ لأنني من عشّاق الشهادة التي أعمل جهدي لها، وحلمي أن أكون من شهداء الإسلام أولاً، وثانياً من شهداء يستشهدون بشرف وكرامة، كرامة الإسلام والوطن، أريد الإجابة سريعاً.
ودمت للمطيع لك بلال فحص
جبشيت في 12/7/1979
ومضت أيام، وصرخة "لا للظلم" لا زالت تتوقّد داخل صدر "بلال"، يحدّث نفسه، بعد عدة مواقف بينه وبين الشيخ: "آهٍ منك يا شيخ راغب! أعلم أنك ابتسمت حينما قرأت كلماتي، وما زلت تردد على سمعي: إن شاء الله يا بلال، سيأتي الوقت المناسب. وأنا بدوري أعدُكَ أنني لن أتراجع مهما طال الزمن، وما دام هناك صهيوني في أرضنا".
بقي "بلال" يترقّب الوقت المناسب دون كلل أو ملل، فلم يعد يفكّر إلاَّ برفع الظلم عن أهله ووطنه، وعن فلسطين الحبيبة، حتى صارت نبضات قلبه أنشودة تأبى الذلّ أبداً.
مرّت السنون والبطش الصهيوني يزداد. طفح كيل "بلال" ووصله القرار الحاسم.. فخط بيده تلك الرسالة التي جمعت في كل حرف من حروفها عزماً، وتحدياً، وعناداً ضد مستبد، ثم راح يرددها وأصبحت ذكره الدائم:
باسمه تعالى
سماحة العلاّمة الفاضل (حفظه الله)، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من جنوب لبنان أبعث إليكم هذه الرسالة آملاً منكم قراءتها بتمعن والإجابة عليها عبر رسالة خطيّة من حضرتكم.
صاحب السماحة، أنا مواطن من جنوب لبنان، أقلّد سماحة الإمام روح الله الخميني قائد الثورة الإسلامية في إيران، سوف أقوم بعملية عسكرية ضد العدو الصهيوني في جنوب لبنان، وأنا مصرٌّ إصراراً لا تراجع عنه، انطلاقاً من واجبي الشرعي والإسلامي، وأيضاً الوطني، وليس من موقع العاطفة الجوفاء، أو اليأس من الحياة، بل أعرف أن اليأس من رَوح الله كفر وجريمة لا تغتفر، لذلك أرجو من سماحتكم إعطائي الغطاء الشرعي لهذه العملية، والتي تكبد العدو خسائر لا بأس بها من 30 إلى 40 قتيلاً وقد تؤدي إلى استشهادي، لذلك أرجو الإسراع بالرد، والأخذ بعين الاعتبار إصراري على القيام بهذه العملية الاستشهادية.
ولدكم بلال أحمد فحص
الجنوب في 12/4/1984
ثمانٌ وأربعون ساعة مرّت. استفاقت شمس الرابع عشر من شهر نيسان متأبّطة أشعتها الذهبية معها، تبثّ دفأها فوق "جبشيت" متسرّبة من نافذة "بلال". انعكس الضوء على عينيه. استفاق وهو يشعر بتعب شديد، فقد أعياه السهر والتفكير في كل ما يجري حوله، لكن ما سرُّ ذلك الدفء الذي يلامس روحه؟ أهي الشمس وحدها؟ غسَل وجهه متهيئاً للخروج، وإذ به يسمع وقع أقدام تقترب من المنزل: "من هذا يا ترى؟ وفي هذا الوقت المبكّر؟ لعلّه...".
ولم يُكمل تمتمته حتى لفت انتباهه ظرف أبيض، انزلق من تحت الباب مسرعاً إلى وسط غرفة الجلوس. التقط الظرف، الذي خطف بانزلاقه لون الوجه الفتيّ، وكسا محتواه الوجنتين بحمرة وردية تدفقت من القلب العاشق. لمعت عينا "بلال" وهو يقرأ الجواب الذي طالما انتظره، وتدافعت الضحكات والدموع في آن واحد! إنها الحياة التي أرادها، الإيمان، المحبة، والتواضع وصفات لا تحويها إلا القلوب العارفة.
تحوّلت تلك الورقة إلى فتاة أحلام "بلال" يُقبِّلها ويدور معها حول نفسه، مستبدلاً آهاته ضحكات تدغدغ الروح وتنعش الفؤاد، وقال: "سبحان الله يا شيخ راغب، أتذكرك اليوم حين رددت على رسالتي ببسمتك المطمئنة وعبارتك الواثقة: "لم يئنِ الأوان يا بني، اصبر يا بلال". ولقد صبرتُ يا شيخ راغب، ولكن غداً سأنتقم لك ولكل الشهداء، ولكل ذرّة تراب تجرّأتْ عليها دباباتهم وملالاتهم".
طوى الورقة، وطوى معها حزنه الدفين في خلايا نفسه إلى غير رجعة. تذكّر خطيبته الحبيبة "فاطمة"، والده، والدته، تذكّر الجميع ثم بدأ يُحرِّر نفسه من كلِّ القيود، ممتشقاً قلمه، مهيئاً نفسه ليؤذّن أذانه الأخير:
"إذا وجدتم جسدي، وأردتم أن تدفنوني، فأرجو أن يكون (دفني) في روضة الشهيدين، أو في بلدي "جبشيت"، وأن يكون القبر طبقة واحدة بلوحة رخام، لونها أخضر، مكتوب عليها آية من القرآن الكريم: هذا زمن يكبر فيه الفقراء
﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾".
ومضى...
1- هكذا وردت في الرسالة، والصحيح: أبوه.