تحقيق: زينب صالح خشاب
هو الحسين بوصلة عشقهم ومنارة دربهم... فكيف لا يرنون إليه في كلّ يوم، وفي أربعينه،
وهم قد طوَوا صفحات عمرهم يرفعون رايته؟! وكيف لا يتهافتون للتبرّك بزيارته وهم قد
أفنوا الغالي والرخيص فداءً لقدسه؟!
* باقون على عهدنا
إنّهم مجاهدون وجرحى وشهداء... يرسمون الحبّ بالتضحيات، ويؤكّدون العهد والميثاق
بينهم وبين الحسين عليه السلام.. فماذا نلقف منهم في الأربعين؟
قد يسأل سائلٌ: أيّ أثر تتركه زيارة الحسين عليه السلام في النفس، غير الارتياح
والطمأنينة والسموّ؟ ماذا تُحدِث زيارة الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما
السلام وسائر الشهداء في عقل وفكر الزائر؟ أهي مجرّد مناسك تنتهي بنهاية الزيارة أم
هي أبعد من ذلك؟
هل فعلاً يتراءى لنا مشهد الرأس المرفوع على الرماح لسيّد الشهداء عليه السلام،
وصورة الكفَّين فوق الرمال لأبي الفضل العبّاس عليه السلام عندما نطأ أرض كربلاء؟
وماذا بعد؟ هذا ما تفصح عنه قصص جرحى وشهداء عشقوا الحسين عليه السلام فظفروا بخير
الدنيا والآخرة.
* الجريح محمد حسن علّوش
لم يكن ببعيدٍ على الشاب العشرينيّ أن يتوجّه إلى كربلاء، ويقف بين الحرمين
الشريفين، ويرفع ذراعيه ناحية القبّة قائلاً: "هاك كفاي مقطوعتين في سبيلك يا أبا
الفضل!". إنّه الجريح محمّد حسن علّوش.
- "يا صاحب الأمر"
بهذا النداء، استقبل علّوش الانفجار الذي أرداه أرضاً مخضّباً بدمه.. فشعور القرب
من أهل البيت عليهم السلام يتّضح في أصعب اللّحظات التي قد يمرّ فيها الإنسان، كما
في الرخاء.
"كنتُ على يقينٍ من أنّ صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف حضرني في تلك الساعة
عندما أطاح بيَ الانفجار.. وعندما نُقلت إلى المستشفى، لم أطلب سوى الحديث مع أمّي..
عندها قلت لها: "أنا بخير يا أمّي.. لا تقلقي..".
- "كفّاي فدا الزهراء يا أمّاه..."
وعندما عُدتُ إلى لبنان، وجاءت أمّي لزيارتي، خبّأت يديّ وراء ظهري. اقتربتْ منّي
وهي تنظر لترى ماذا حلّ بي، فقلت لها: أنا فداء للزهراء يا أمّي.. فسألتني: بِمَ
فديت الزهراء؟! عندها رفعتُ يدَيّ.. نظرت أمّي.. فتراءى لنا العبّاس عليه السلام..
لقد قُطعت كفّاي، كما قُطعت كفّاه..".
- أستحي أن أقول: واسيتُه
وهناك.. في زيارة الأربعين.. وأمام الحرمَين المقدّسَين للحسين وأخيه أبي الفضل،
شعر أنّ روحه تسمو فوق أضغاث الدنيا.. "هناك لم أمتلك الكلمات لأصف شعوري.. أو حتّى
لأتكلّم في حضرة سيّدي العباس الذي واسيته بقطع كفَّي.. أنا أستحي أن أقول: إنّي
واسيته.. ما نحن وما هم.. أنا فقط أقول: الحمد لله
على هذه النعمة.. الحمد لله؛ لأنّه نظر إليّ نظرة رحيمة..".
* الشهداء في حضرة الحسين عليه السلام
1- الشهيد علي الهادي نون: أمّاه: لا تغفلي عن زيارة الحبيب
ماذا بينهم وبين الحسين عليه السلام؟ ولماذا حثّهم على زيارته خاصّةً في الأربعين؟!
فهذا الشهيد الشاب علي الهادي نون، يوصي أمّه قبل شهادته: "روحي عالأربعين وأنا
لاحقك"، فتمتثل طلبه، حتّى لو بعد شهادته، لتشعر به طيراً يحلّق فوق قبة الغريب،
وكأنه يقول لها: "لا تغفلي عن زيارة الحبيب".
2- الشهيد القائد حسين همداني: ما نحن وما زينب عليها السلام؟
"نحن نمشي في الأربعين مسافةً أقصر بكثير من تلك التي مشتها السيدة زينب عليها
السلام...". ما نحن وما زينب عليها السلام؟ ما نحن وما مشي زينب عليها السلام؟ نحن
نمشي تأسّياً بابنة أمير المؤمنين وبموكب سيّد الشهداء عليه السلام"، يقول الشهيد
القائد في الحرس الثوري الإيرانيّ حسين همداني.
- نمشي لنجدّد البيعة
ويضيف الشهيد باكياً: "ما هذا الحبّ والشغف اللذان يغمران قلوبنا إلّا دليل على ذلك
التأسّي.. نحن نمشي: الصغار والكبار، والجريح والمقعد والمريض والمعوق.. جميعنا
يمشي كما مشى الحسين عليه السلام في مسيرته ضدّ الباطل يوم عاشوراء". ويختم حديثه
بسرّ المشي يوم الأربعين: "نحن نمشي نحو قبلة عشقنا ومركز جاذبيّتنا.. نحو الحسين
العطشان الظمآن، لنجدّد له العقد والبيعة..".
3- الشهيد علاء نجمة: بروح مرحةٍ وضحكة مميّزة، نعى الشهيد علاء نجمة نفسَه، في
مقطع فيديو مصوّر قبل شهادته. فهذه الشهادة حلمه، يسارع إليها بفرحٍ يشاطر به
الأكبر عليه السلام، عندما ودّع أباه وذهب للقاء ربّه. ففي الفيديو يقول: "﴿مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...﴾.
بمزيد من الفخر والاعتزاز، تزفّ المقاومة الإسلاميّة الشهيد علاء حسن نجمة"، ثمّ
يتوقّف ضاحكاً ويقول: "مش حيكون في تشييع"... كما أنّه قد سجّل مرثيّة حسينيّة
لأمّه، بصوته الحنون، وكأنّه يقول: "لكِ أسوة بزينب والزهراء يا أمّي.. فقد ذهبتا
عند حبيبهما الحسين عليه السلام".
* الجرحى وسيّدهم..
قد تبدأ حياة الجنان والنعيم عند استشهاد المجاهد، أما إذا كتب الله له نوعاً آخر
من التضحية، فالأمر مختلف. إنّه حال الجرحى، أولئك الذين وهبوا حواسّهم فداءً للنهج
الحسينيّ المقاوم.
* الجريح جواد اليابانيّ
- علاقة خاصّة بسيّد الشهداء عليه السلام
"كنتُ أسمع صوتاً حنوناً لشابٍّ في مقتبل العمر، يقرأ زيارة الإمام الحسين عليه
السلام، عند الساعة الثالثة فجراً، فآنس به، وفي الصباح أسأل أخي عنه، فيقول: هذا
جواد الياباني، يمضي الليل في قراءة زيارات الحسين عليه السلام. وعندما أسأله عن
سبب امتناعه عن النوم يقول: يريد أن يواسي المجاهدين في الجبهة". هذا ما ترويه زوجة
الجريح جواد عن الأيّام التي سبقت ارتباطهما، وتضيف: "في العيد، رفض جواد أن يأكل
اللحم المشويّ تأسّياً برفاقه في مليتا أيّام الثمانينيّات. في ذلك العيد قال لي
أخي: الشاب الذي يقرأ الزيارة في الليل، رفض أكل اللّحم المشويّ. فبهذا عرفته، إنّه
صاحب العلاقة القويّة جدّاً بزيارة الحسين عليه السلام، وإنّه الشاب الذي لا ينام
في الليل تأسّياً بالمجاهدين.
ولطالما سمعته يرفض الخروج مع الشباب قبل قراءة الزيارة، ويمتنع عن أمورٍ كثيرة إنْ
لم يكن قد قرأها، يقرأها بخشوع وبكاء، حتّى كأنّ الحسين عليه السلام واقفٌ أمامه".
- فقَدَ عينَيه كأبي الفضل عليه السلام
"كان يفكّ عبوةً فانفجرت في وجهه. دخلت شظيّة في عينه الأولى فيما تمزقت عينه
الثانية. تذكّر فوراً أبا الفضل العباس عليه السلام وما حلّ به، وكيف وقف حائراً لا
يبصر يوم عاشوراء. لكنّه لم يعرف أنّه فقد بصره إلى الأبد، وأنّه لن يرى ابنته
الأولى التي كنتُ قد أنجبتُها قبل 4 أيام من إصابته. في تلك اللّحظات تفقّد جواد
قدميه ويديه وقال: الحمد لله أنّي لم أفقد أطرافي، سأستطيع إكمال المسيرة".
- زيارة الحسين عليه السلام دربُ سعادة
أمّا عن الحياة بعد فقد نظره، فتقول زوجته:
"فور عودته إلى البيت ومعرفته أنّه لن يبصر بعد الآن، تعلّم طريقة البريل، وصار
يطلب منّي أن أقرأ له زيارة الإمام الحسين عليه السلام كي يكتبها بالأحرف النافرة،
ويحفظها. وهكذا كان حتّى حفظ زيارات الإمام الحسين وبعض الزيارات والأدعية. ثمّ
عندما صار يستطيع الذهاب إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام، تغيّرت حياته وصارت
الآثار المعنوية لتلك الزيارات تُسدل على البيت من نعيمها، حتّى صارت زيارة
الأربعين جزءاً لا يتجزّأ من أعمال كلّ سنة".
وعن زيارة الأربعين يقول: "لا يستطيع المؤمن إحصاء النعم المعنويّة والماديّة
التي تدرّها عليه زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام..".
ويحثّ أولاده على زيارة الإمام الحسين عليه السلام عن قرب وعن بعد، قائلاً: "زيارة
الحسين عليه السلام هي درب سعادتكم في الدنيا والآخرة".