(حوار مع الأستاذ أنور نجم)
حوار: حسن سليم
"رزق الله ع الزمن الجميل"، عبارةٌ نسمعها كلما اصطدم الجديد بالقديم، فظهرت غلاظة
الجديد ورشح الشوقُ إلى الماضي القديم. زمن العائلة المجتمعة، زمن الجار الملهوف
على جاره، زمن التلميذ الموقّر لأستاذه. وتطول اللائحة ليضاف إليها اليوم، زمن
الإنشاد الجميل. يومها عندما كان اللحن يتغلغل في شرايين الأرواح، والكلمات تنساب
على كل شفةٍ فتتحول إلى لغةٍ خاصة أبدعها وأتقنها المثقفون والمقاومون والمزارعون
والأمّيون والكبار والصغار. فلم يعد النشيد مجرد موسيقى وأصوات، بل أصبح علَماً
للبيعة وقسَماً للوفاء وعهداً من الشعب وتحريضاً للمجاهد، باختصار أصبح جزءاً من
ثقافةٍ ممهورة بالعزّ؛ هي ثقافة المقاومة. حملنا الشوق إلى الجيل القديم، لنلتقي
الأستاذ أنور نجم، المقاوم بشعره وأحد مؤسسي فرقة الولاية.
1- من رحم البيئة المقاومة، كيف تروون لنا بداية الإنشاد المقاوم؟
في تلك المرحلة؛ أي في العام 1984م، أردنا إبراز مآل هذه المقاومة. فأنا كان لديّ
نشاط خاصّ، وأيضاً محمّد ونبيل عساف الملحّنان الأوّلان للألحان الإسلاميّة كان لكلّ
منهما نشاطه الخاصّ... إلى أن اجتمعنا، ووحّدنا الجهود من أجل إبراز فكر المقاومة
وهدفيّتها ومعالمها وجهادها.
أوّل أمر قمنا به هو السؤال والبحث عن مشروعيّة هذا العمل من الناحية الفقهيّة، على
رأي المرجعَين السيّدين الخوئيّ والخمينيّ (قدس الله سرّهما)، وعلمنا بجواز
الموسيقى والأناشيد الثوريّة والعسكريّة.
في البدايات عانينا في معرفة هل هذه الموسيقى الفلانيّة شرعيّة أم غير شرعيّة، إلى
أن وفّقنا الله بسيّدنا الشهيد السيّد عبّاس الموسويّ الذي قال -بعد الاستماع إلى
الأناشيد-: إن شاء الله هذه شرعيّة. ومن هنا، بدأ البحث العميق عن رسم الموسيقى وفق
فتوى الإمام الخميني قدس سره، وأنا هنا أتحدّث عن فترة الثمانينات، فكان هناك قواعد
وضوابط للشعر وللموسيقى وللإطلالة؛ لأنّ الناس مشبعة بالموروث الغنائيّ، وليس لدينا
ثقافة إسلاميّة إلّا نادراً.
وبتوفيقٍ من الله سبحانه وتعالى، أُسّست مدرسة الولاية (فرقة الولاية الأولى)،
وكانت تحت رعاية سماحة السيّد عبّاس (رضوان الله عليه)، ومن ثمّ سماحة السيّد حسن
نصر الله (حفظه الله) وعدد من الشخصيّات الذين كانوا يواكبون معنا خطواتنا الفنيّة
من الناحية الشرعيّة.
وفي العام 1988م، أقامت الفرقة مهرجانها الأوّل، وفي ذاك الوقت، كنا نضحك في سرِّنا؛
لأنّ لطفاً إلهيّاً كان يُسيِّر أمورنا. وقد كان السيّد عبّاس يقول لنا وقتها: "أنتم
تسنُّون سنَّةً حسنة، ومَن سنَّ سُنّةً حسنةً فله أجرُها؛ إذ إنّ عملكم هذا يواكب
عمل المجاهدين ونصرهم".
2- غالباً، تغلب الملامح الغربيّة على مجال الموسيقى والإنشاد، هل استطاع الإنشاد
الإسلاميّ حجز اللّون الخاصّ به في عالم الفنّ؟
بعد تجربة أكثر من ثلاثين عاماً، بداياتها كانت جميلة رغم فقرها الموسيقي، واليوم
تطوّر المجال الموسيقي كثيراً جدّاً، يمكن القول: استطاع الإنشاد الإسلاميّ أن
يُبرز شيئاً من هُويّته الموسيقيّة.
ولكن ما هو المُقلق باعتقادي أنّنا الآن في حالة تقليد قويّة جدّاً؛ إذ قد تجد بين
العشرات من الأناشيد الحديثة واحداً منها فقط متفرّداً ومتميّزاً.
3- إلى أيّ مدى كان تأثير تلك الكلمات والأدبيّات في طرح القضايا والحفاظ على القيم
التي على أساسها رسمت؟
لقد تركت أناشيد كثيرة وعديدة بصماتها وأثرها في ذاكرة مجتمعنا، كنشيد السيّد عبّاس
"الشعب استيقظ يا عبّاس"، الذي يحاكي شخصيّته (رضوان الله عليه) والأرض ودم الشهيد،
ومحوره الوعد بتحرير القدس.
لقد مرَّت الأنشودة في مراحل عدّة:
- من الـ(1985م حتّى 1992م): أنشودة حزب اللّهيّة مطلقة، كما في مرثيّة الإمام
الخمينيّ قدس سره.
- من الـ(1992م حتّى 2000م): أنشودة حزب اللّهيّة-لبنانيّة، ويتخلّلها أنشودة حزب
اللهيّة لبنانيّة فلسطينيّة، كما في مرثيّة السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه).
- بعد الـ(2000م): انطلقت الأنشودة إلى فضاء الأمّة ككلّ، بل إلى فضاء المستضعفين
أينما كانوا.
وهذه نتيجة طبيعيّة لتطور المسار الذي خطته المقاومة، والنجاح في التأثير الذي
فرضته؛ حيث إنّ كل عمل انتصرت فيه المقاومة كان له تأثير في تلك المجتمعات.
4- برأيك، ألا يتحمّل المنشد المسؤوليّة تجاه ما يبثّه من أعمال فنّيّة، خصوصاً مع
ما نشهده اليوم من أناشيد تقارب الطرب أكثر من القضايا الرساليّة؟
مع الأسف، حالة الإبداع -في حالتنا الإسلاميّة- غير موجودة إلّا عند ثلاثة أو أربعة
من المتخصّصين، أمّا أكثر المنشدين فلا يملكون ثقافة شعريّة ولا موسيقيّة. وهؤلاء
بعضهم همّه أن يوصل صوت المقاومة، وبعضهم همّه أن يصبح لديه نشيد.
وليس المنشد وحده هو مَن يتحمّل المسؤوليّة، إنّما أيضاً الملحّن والشاعر؛ إذ ينبغي
أن يكونا متديّنَين؛ حتى يكون اللّحن والشعر مواكبَين للعمل.
وفي سياق الكلام عن الكلمات، سأتحدّث عن تجربتي الممتدّة لـ3780 أنشودة، وهي
المدرسة الأكبر والأوسع في تاريخ حزب الله، من عام 1984م، وحتّى اليوم.
وأنا أتحدّث عن قصيدتي، عادةً ما يتمّ الذهاب إلى الحدث: المقاومة، الأمّة، الشهيد،
أمّ الشهيد، أخ الشهيد، المجاهد... فأكتب عن الحدث.
ومن العام 1984م وحتّى الآن لم أواجه أيّ مشكلة في المفهوم. وأعتقد أنّ أغلب
الشعراء أيضاً لم يقعوا في هذا المحذور؛ إذ لم ألحظ في قصائدهم إشكالات شرعيّة أو
مفاهيميّة.
5- كيف نقدّم ثقافة موسيقيّة وشعريّة؟ وإلى أيّ مدى تساهم شخصيّة المنشد الملتزم في
ذلك؟
أنا مع المنشد الذي يكون مطّلعاً على بحور الشعر، وملمّاً بألوان الموسيقى، فليس
المطلوب فقط أن يكون المنشد صاحب صوتٍ جميل؛ لأنّنا واجهنا الكثير من الصعوبات في
العمل مع أصحاب الأصوات الجميلة الذين لا يعرفون الشعر ولا المقامات.
وبالنسبة إلى الضوابط الشرعيّة، فإذا كان اللّحن شرعيّاً وكلمات القصيدة شرعيّة، لن
يقع المنشد في المخالفة الشرعيّة. فالمنشد هو المخرج لعصارة ما أدّاه الشاعر
والملحّن بعذوبة صوته، وبجمال أدائه...
نحن ندعو إلى وجود ثقافة موسيقيّة وشعريّة للمنشدين؛ حتّى لا يقع المُنشد في
الأخطاء أثناء أدائه الأنشودة.
وفي ما يخصّ الفيديو كليب، فبعضه نجح وبعضه الآخر لم ينجح؛ لأنّنا نجترّ المشاهد
والصور بدون تنسيق. ونحن الآن في مرحلة ضياع -وأنا أتحمّل مسؤولية ما أقول- مرحلة
ضياع في التعبير (الفيديو كليب). نحن لا نحتاج إلى حربٍ حتّى نبدع من جديد، نحن في
حالة صراع دائم مع العدوّ، وهذا يدعو إلى أن نكون مبدعين على الدوام. ومن المشاكل
التي نعاني منها أنّ الكثيرين باتوا يتّكلون على مقامات صغيرة عدّة، يعملون عليها
دون الاهتمام بكلمات النشيد. لذا، تجد النشيد يأخذ صيتاً أيّاماً أو أشهراً عدّة ثمّ
يخفت صوته؛ لأنّه لم يحمل بذور النجاح الدائم.
لدينا في تجربة الجمهوريّة الإسلاميّة من هم ليسوا عمالقة في الموسيقى ومتديّنون
وخلّدوا، مثلاً: موسيقى مسلسل النبي يوسف عليه السلام، مَن يعرف هذه الموسيقى يعلم
أنّها من المقطوعات العالميّة، والبرنامج يُعرض منذ سنوات وما زالت الموسيقى
عالميّة.
6- كيف رصدتم تأثّر المجاهدين بالعمل الإنشاديّ من تلك المرحلة وحتّى اليوم، كنشيد
"الشعب استيقظ يا عبّاس"؟
أذكر أنّنا كنّا نتشرّف بأن تُكلّفنا قيادة المقاومة بأن نذهب إلى ثغور المقاومة،
في فترة الثمانينات، وأن نُنشد لهم. كانت أناشيدنا تُولِّدُ حالات فوريّة هائلة.
أنت تخاطبه عن المقاومة، عنه هو، عن أهله الصابرين المجاهدين، عن بيئة المقاومة، عن
فلسطين وهو ينظر إليها، عن وعد الله، عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف...
فتتولَّد لديه ثورة نفسيّة قويّة جدّاً تحاكي كلّ قيم المقاومة التي يُعتقد بها.
فكان المجاهد يخطو وأنا أخطو خلفه، وأكتب عن هذه الخطوة التي يخطوها وأرسمها فنّاً.
انعكست فترة الأناشيد انعكاساً وقبولاً مذهلاً في البدايات. وهذا شيء طبيعيّ؛ لأنّ
الناس بطبيعتها مفطورة على حاجتها للفنّ. ففي أوّل احتفال لنا -وقد تحدّث فيه
السيّد عبّاس-، كان الحضور منقطع النظير ومفاجئاً؛ حيث كنّا نعتقد أنّ العدد سيكون
في حدود الخمسين أو المئة شخص -خاصةً كنّا في زمن حرب-؛ وإذ بباحة الإمداد القديمة
ممتلئة والشوارع مغلقة!
قبل استشهاده بفترة، ذهبت أنا والمهندس نبيل عسّاف إلى السيّد عبّاس، وقلنا له:
يوجد حصار للمقاومة وأصبح من اللّازم تطوير أنفسنا بعد أربع أو خمس سنوات، فقال: ما
المطلوب؟ قلنا له: نريد الإتيان بآلتين من السويد لنضيفهما إلى معدّات الفرقة، فطلب
منّا العودة في الساعة الفلانيّة، ليعطينا المبلغ.
بطبيعة الحال، لم يكن السيّد عبّاس يملك فلساً، وهو كان أميناً عامّاً لحزب الله.
وقد تبيَّن بعد استشهاده أنّه قد استدان مبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة دولار على عاتقه؛
لمجرّد أن طلبنا منه العمل على دعم العمل الإنشاديّ المقاوم.
والمفارقة أنّه بعد تسلّمنا الآلتين، كان أوّل عزف عليهما في نشيد "الشعب استيقظ يا
عبّاس"!
وإلى يومنا هذا، ما زال نشيد السيّد عبّاس الموسويّ هو الأول في تاريخ الأناشيد،
والأكثر مبيعاً قطعاً، على الرغم من أنّه قد تمّ إصدار عشرات آلاف الأناشيد من
الـ1992م حتّى الآن.
وأضيف أنّني عندما كنت أسافر لعدد من البلدان في الخارج، فألتقي بإخوان في أماكن
ثقافيّة، كانوا يستقبلونني -حينما أدخل- بنشيد "الشعب استيقظ يا عبّاس". وقد أضحكني
أحد الإخوة، الذي قال لي عندما التقيته: "ذهبت سنة 1993م لتحضير الدكتوراه، فلم يمرّ
عليّ يومٌ إلّا وسمعت هذا النشيد عشرات المرّات، وكان لديّ اعتقاد بأنّ أثر السيّد
الشهيد سيوفّقني أكثر". كما أنّ أحد الإخوة أيضاً تحدّث كثيراً عن النشيد أثناء
دراسته للطب. كان لهذا النشيد صدى واسع شهد به كثيرون. فهو قد صدر من جرح السيّد
عبّاس (رضوان الله عليه)، وحاز رعايةً كبيرةً من سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه
الله)، ومن الشهيد القائد الحاج رضوان.
وطبعاً، أصبح معروفاً وغير خفيّ أنّ الشهيد السعيد الحاج رضوان سجّل ثلاثة
أناشيد مع فرقة الولاية.