اسم الأمّ: آمال زعيتر.
محلّ الولادة وتاريخها: إيعات 20/6/1986م.
رقم القيد: 83.
الوضع الاجتماعي: عازب.
تاريخ الاستشهاد: بعلبك 5/10/2014.
وفي لحظة يمنُّ الله فيها على عباده فيصطفي منهم لنفسه من يشاء من أولئك الذين لا
تخبو جذوة النور في نفوسهم.. وكذا كان ماهر، الذي انقلبت حياته رأساً على عقب في
لحظاتٍ خاطفة..
* في الحجاب.. لا نقاش
في بداية التزام "ماهر" ووعيه للمسائل الدينيّة، كان الحجاب وقدسيّته خطاً أحمر،
فلا يناقش فيه أبداً. وكان وعيه المبكر ذاك لافتاً لمن حوله، خصوصاً أنّه لا يتركُ
ملاحظة أو لفت نظر حول هذا الأمر.
ابن قرية "إيعات" البقاعيّة، ولد وعاش هناك بين خمسة أولاد هو رابعهم، كان همّ
الحياة مرافقاً له منذ صغره، اهتمّ بدراسته، ومشاركة المسؤولية مع العائلة إن
استدعى الأمر، ولم يشغله أيّ اهتمام عن ذلك، وكأنّه يربي نفسه على تحمّل
المسؤوليّة، فلم يتّكل على أحد ولو بطلب صغير، وحكمت الصداقة علاقته بوالده التي
كانت مكلّلة باحترام، فيبوح كل منهما بما يهمّه للآخر.
* مسؤوليّة جديدة
وما إن أنهى دراسته الثانوية، حتّى بدأ ماهر بالعمل في بيروت، ثم عاد إلى بعلبك
للعمل في أحد المطاعم. وكان ما إن يعود إلى البيت حتّى يوافي والده ليعاونه، إلى
أنْ كان ذلك اليوم الذي داهم الموت فيه الأب على حين غرّة.
تغيّر ماهر كثيراً بعد وفاة والده الصديق، حزنه كان ظاهراً مؤثراً لشدّة علاقتهما
الخاصّة لكنه سرعان ما نهض بمسؤولياته الجديدة، فساند أمّه في محنتها، وخفّف عنها
الفَقد الجلل. وهنا بات "ماهر" المسؤول عن المنزل، وبقي حوالي السنة والنصف يعمل من
أجل إعالة أمّه وأخوته.
* اخترتُ طريقي
كانت تلك فترة الانتقال الجذري في حياته، فقد التحق بصفوف التعبئة وخضع لدورات
ثقافيّة وعسكريّة، وتبدّلت أولويّات حياته، واختلفت نظرته إلى الأمور، وعاد إلى
العمل في المطعم بناءً على إلحاح مديره الذي أحبَّ ماهراً لأخلاقه الرفيعة، وتهذيبه
المميز، ولكنّه سرعان ما حسم خياره وترك العمل، وعندما سألته أمّه عن السبب، قال
لها: "أنا رسمتُ طريقي واخترتُ ما أريد".
كان التحاق ماهر الرسميّ بصفوف المجاهدين قُبيل أنْ يبدأ الإرهابُ بضربِ المناطق
الآمنة. وخافت أمّه من هذا القرار الذي بدا حاسماً حازماً في طريق لا رجعة فيه. لقد
اختار ماهر طريق حزب الله وكفى! ولم يعد يجدي الحديث معه عن أيّ شيء آخر. ولكن ما
إنْ بدأت الانفجارات تغتال الأمن في لبنان، حتى أدركت الأمّ أهميّة ما فعله ولدها
واقتنعت به، وصارت في قرارة نفسها تدعو له بما يحبّ وإنْ كانت الفكرة قاسية على
فؤادها العاشق لولدها: "الاستشهاد في معركة". لقد كانت تسمعه يئنّ في صلاته وهو
يدعو الله أن يرزقه الشهادة، وترك ذلك أثراً عميقاً في نفسها، بل كانت روحها تتزلزل
وهي تسمعه وتراه كيف يتحيّن الفرص ليلتحق بالقتال.
* ألم الفراق على رفاق الشهداء
لم يكن رحيل رفاقه شهداء مشهداً عادياً، بل كان موقفاً قطّع نياط قلبه، فلازمه حزن
الفراق الذي لا يشفيه سوى اللقاء الأبديّ.
عندما كانت أمّه في بعض الأحيان تحادثه بشأن الزواج، كانت تدري أنّ رحيله بات
قريباً، فقلبُ الأمّ دليلها، ولذا كانت تودّ أن تبقى منه بقيّة تهدّئ روع قلبها،
ولكنّه كان يجيبها بمحبة ويعتذر.
بتلك العينين اللتين ما عادتا تبصران أي شيء سوى الله، عاش ماهر أيّامه الأخيرة؛ بل
كأنّه لم يعد يعيش بين الناس إلّا بجسدٍ يبحثُ عن مكان يعبُر منه إلى الروح التي
فارقته. وكان كلّما ذهب إلى المحور يشعر أنّ اللحظة قد حانت، وكم انزعج عندما تمّت
مفاضلة بينه وبين صديقه حول المشاركة في إحدى المعارك ضدّ الإرهابيّين، فتمّ اختيار
رفيقه الذي استشهد في المعركة. يومها عاد ماهر إلى أمّه بادياً عليه التأثّر،
وعندما أخبرها بذلك وغصّ بكلامه، لم تجدْ بداً من التربيت على كتفه قائلةً بمحبة:
"يا بنيّ، من له عمر، لا تقتله شدة! إذا كتب الله لك عمراً فستعيش، وإذا لا فإنّها
الشهادة!".
* موت العزّ.. موت الشهادة
بلى؛ إنّها الشهادة "موت العزّ" كما كان يعبّر، ولا بدَّ من الوصول إليها، فمن جدَّ
وصل لا محالة.. كان يقول في الشهرين الأخيرين لأمّه وإخوته إذا استشهدت فافعلوا
كذا، ولا تفعلوا كذا، وانتبهوا الى ذلك الأمر، وكان يكثر من الوصايا التي يسبقها
دوماً "إذا استشهدتُ"، فصار الجميع كمن يترقّب ذلك الخبر الذي سيصدع قلوبهم.
وكان عيدُ الأضحى.. عيد الذبح الأعظم.. يومها التحق ماهر بأحد المحاور الذي شنّت
عليه مجموعة من إرهابيي داعش هجوماً مباغتاً، صدَّه الإخوة المجاهدون ببسالة،
فارتفع منهم عدد من الشهداء بعد أنْ تقهقر الأعداء وفشل هجومهم، وارتفع ماهر
شهيداً.
* عشق الله
كانت الأخبار تتوالى مبهمة وغير واضحة، فاستقرّ القلقُ في مفاصل أمه التي ما عادت
تقوى على شيء سوى الدعاء. وبعد أنْ أدَّت صلاة العشاء، وقتذاك، جلست في مصلّاها
واضعةً يدها على قلبها قائلة: "كل ما يأتي من عند الله هو خير، والأعمار بيده
وحده"..
ولا رادّ لقضاء الله.. لقد ارتاحت نفسها عندما جاءها شهيداً في معركة الدفاع
المقدس، وأيّ شرف هذا! فطوبى له ذلك العشق الذي فطمه عن كلّ شيء في الدنيا، حتّى عن
نفسه.