الشيخ محمود كرنيب
ممّا ذكر في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام من صفات
الشيعة أنّهم "الخاشعة قلوبُهم". وفي هذه المقالة سنعرض لهذه الصفة، ممّا ورد في
"خطبة المتّقين"(1) في نهج البلاغة. وقد يكون ذلك كافياً وشافياً بدرجة من الدرجات
في مقاربة صفة "الخشوع"، لكن قبل ذلك لا بدّ من بيان أهميّة هذه الصفة.
* معنى الخشوع وأهميّته
الخشوع لغة هو الخضوع. وربّما عنى التذلّل والسكون والانكسار أمامَ من له سطوة
وهيبة وقدرة وعظَمة.
وفي العبادة هو تلك الحالة التي تحصل للعبد في قلبه فتنعكس على جوارحه على هيئة
موجبة للانكسار والذلّ أو الخوف، فتسكن الأطراف وينخفض الصوت.
وعن ذلك يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في كتابه الآداب المعنوية للصلاة: "إنّ من
الأمور اللّازمة للسالك في جميع عباداته، ولا سيّما في الصلاة التي هي رأس العبادات
ولها مقام الجامعيّة "الخشوع". وحقيقته عبارة عن الخضوع التامّ الممزوج بالحبّ
والخوف..."(2).
ومن أهميّة الخشوع أنّك ترى المولى عزّ وجلّ قد قال عنه:
﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ (البقرة: 45)، ذلك
أنّ الصلاة قد تكون بالنسبة إلى بعض الناس وفي كثير من الحالات أمراً مكلفاً
ومزعجاً وله مشاقّه، خاصّةً صلاة الليل وصلاة الفجر، وبالتالي فإنّ الخشوع صفة
نفسية تزيل الشعور بالمشقّة والتعب فتعين على تحمّلها، بل تحوّل تلك المشقّة وذلك
التعب إلى لذّة؛ نتيجة الأنس بالعبادة والفكر العباديّ، وربما يترقّى ذلك إلى الأنس
بالمعبود.
إنّ المولى تعالى جعل الخشوع العلنيّ منتجاً للفلاح، فقال في بداية أو مفتتح سورة
المؤمنون: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ (المؤمنون: 1-2).
* أقسام الخشوع وأنواعه
للخشوع أقسام، فمنه الظاهريّ، ومنه الباطنيّ. أمّا الظاهريّ فهو ما كان متعلّقاً
بالظاهر والجوارح، وبالتالي بالهيئة. وأمّا الباطنيّ فهو ما كان متعلّقاً بالقلب.
وقد ذكر أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة المتّقين القِسْمَين فقال: "فَمِنْ
عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ... وَخُشُوعاً فِي عِبَادَة..."(3). وقال
في موضع آخر منها: "تَرَاهُ... خَاشِعاً قَلْبُهُ..."(4).
* ما العلاقة بين الخشوعين؟
وفي انقسام الخشوع إلى القسمين المذكورين، يقول الفيض الكاشاني في المحجّة البيضاء
ما حاصله:
الأول: الخشوع القلبيّ، وهو أن يكون تمام همّته في الصلاة، ومُعرضاً عمّا
سواه بحيث لا يكون في قلبه سوى المحبوب.
الثاني: الخشوع في الجوارح وهو يحصل بأن يغمض عينيه ولا يلتفت إلى الجوانب
ولا يلعب بأعضائه. وبالجملة لا تصدر منه حركة سوى الحركات الصلاتية ولا يأتي بشيء
من المكروهات...(5).
وباختصار، نقول: "إنّ الخشوع المذكور في صفات المتّقين بكلا شقّيه، هو من الخشوع
الممدوح والمطلوب، بل من الخشوع الطبيعيّ الملازم لصفة التقوى".
* كيف حصل المتّقون على الخشوع؟
إذا تتبّعنا ما في القرآن الكريم وأضفنا إليه ما في خطبة المتّقين نصل إلى جملة من
الأمور التي تُكسب الخشوع منها:
1- العلم: حيث وصفهم الإمام عليّ عليه السلام
بقوله: "وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ"، فيما قال المولى
تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِ
الْعُلَمَاء﴾ (فاطر: 28).
فحصر تعالى الذين تحصل لهم الخشية منه تعالى بالعلماء، حيث انقادت القلوب إلى ما
حوته العقول والأذهان.
ولذا، ربما أشار الإمام عليّ عليه السلام في خطبة المتقين إلى العمل وفق مقتضيات
العلم عندما وصف المتقين بقوله عليه السلام: "فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ
أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين،
وَحِرْصاً فِي عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم".
فالعلم الذي هو طريق حصريّ لتحصيل الخشوع، إنّما يكون كذلك إذا ما كان العالمُ
منفعلاً بعلمه، عاملاً بمقتضاه، وإلّا كان العلم بنفسه حجاباً أكبر، لا حجاب أكبر
منه.
2- مجاهدة النفس: فبحسب التتبّع لخطبة المتقين نجد أنّ كلّ الصفات التي
حصّلها هؤلاء ومنها الخشوع، ناجمة عن خوضهم ميدان جهاد النفس، حيث قال الإمام عليه
السلام عن ذلك: "صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً
طَوِيلَةً".
لفت عليه السلام إلى أنّ ذلك إنما يكون بتوفيق وتيسير إلهيّين، حيث قال عليه
السلام: "تِجَارَةٌ مَرْبِحَةٌ، يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُم".
وفي ذلك إشارة غير خفيّة إلى ما جاء قرآناً، وهو قوله تعالى:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْرًا﴾ (الشرح: 5-6).
وكذلك تعهّده تعالى قرآناً: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
(العنكبوت: 69).
ومن تفاصيل وخطوات وعلامات خوضهم ميدان جهاد النفس:
أ- الصبر: "صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً".
ب- مخالفة النفس: من ذلك ممارستهم ما يوصف في مراحل الجهاد الأكبر، حيث قال عليه
السلام: "... إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيَما تَكْرَهُ لَمْ
يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيَما تُحِبُّ".
3- الجهاد الأكبر في مرحلته الظاهرية: وعنه يقول عليه السلام:
"غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَوَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ
عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ".
4- علاقة الجهاد بالخشوع: قال الإمام عليّ عليه السلام في كلامه عن جهاد
المتقين لأنفسهم: "أَرَادَتْهُمُ الْدُّنْيَا وَلَمْ يُرِيدُوهَا،
وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا".
فنتيجة الجهاد للنفس هو التحرّر من أسر الدنيا وشهواتها، ليصْفو القلب من لوثاتها،
فتكون بصيرته أجلى، فيرى بعين قلبه الحضور الإلهي وآثار جماله وجلاله، وينفعل بهذه
الرؤية وهذا الشهود خشوعاً وخضوعاً وأنساً وتلذّذاً(6).
5- مرتبة الخشوع عند المتّقين: كما إنّ للخشوع أقساماً: الظاهريّ منها
والباطنيّ، فكذلك له درجات ومراتب، منها المتزلزل المتلوّن الذي يأتي ويغيب، فتارةً
نجد أنفسنا حاضري القلوب، فتخشع قلوبنا ثمّ لا نلبث أن نفتقد ذلك في مرّات أخرى...
ذلك لأنّ خشوعنا لم يصل إلى درجة التمكين والطمأنينة؛ وأمّا المتّقون، كما وصفهم
أمير المؤمنين فقد وصلوا إلى مرتبة تمكين هذه الصفة في نفوسهم، فقال عليه السلام:
"إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي
الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ".
6- أدوات تحصيل المعرفة المؤدّية للخشوع: ويأتي في المرتبة الأولى قيام
المتّقين بالليل للصلاة وتلاوة الكتاب، فهم:
أ- "أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ"، إشارة إلى صلاة الليل.
ب- "تَالِينَ لأجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلاً"، إشارة إلى
قراءة القرآن والتأمّل والتدبّر. "يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ،
وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ" وهي كناية عن الحالة النفسية للقراءة.
ففي قراءة القرآن ليلاً، وفي وقت السحر خصوصاً، دواء أمراض نفوسهم. وبالخلاصة،
فالمعرفة الشهودية ثمرة هذه العلاقة بالليل والقرآن. والإمام يرشدنا إلى وسيلة
تُعِدّ القلوب لتصبح جاهزة لرفع نوعيّة المعرفة لتتحوّل من علم إلى معرفة قلبيّة
شهوديّة، تنتج أخيراً خشوعاً وخضوعاً.
* سرّ الخشوع
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في الآداب المعنويّة للصلاة عن كيفية حصول الخشوع:
"وهو يحصل من إدراك عظمة الجلال والجمال وسطوتهما وهيبتهما...". ثمّ يقول في موضوع
آخر في الكتاب نفسه: "فيلزم للسالك أن يدخل نفسه في سلك المؤمنين بعد سلوكه
العلميّ، ويوصل إلى قلبه عظمة الحقّ وجلاله وبهائه وجماله جلّت عظمته كي يخشع
قلبه..."(7).
فسِرُّ الخشوع وحقيقته ذلك الشهود لعظمة الحقّ تعالى، عظمة جلاله وجماله المنكشفة
غالباً بآثارها، كما في الكتاب الكريم وفي أوليائه، وهذا ما سبقت الإشارة إليه، بل
في كل الوجود، كما جاء في دعاء كميل بن زياد: "وبعظمتك التي ملأت كلّ شيء"(8).
فالمتقون مسكونون بهذه العظمة، أصّلوها في أنفسهم فلم يبق لغير العظيم تعالى محلّ،
حيث قال أمير المؤمنين عليه السلام: "عِظَمُ الخالِقِ عِنْدَكَ يُصَغِّرُ
الْمَخْلُوقَ فِي عَيْنِهِمْ".
فالإمام عليه السلام يشير إلى أنّ هيمنة شعور المتّقين بعظمة الله ومعرفتهم بهذه
العظمة طبق تلك النفوس، فلم تعد متّسعة لغير الله.
1.نهج البلاغة، الخطبة 193، ص163.
2.الآداب المعنوية للصلاة، روح الله الموسوي الخميني، ص39.
3.نهج البلاغة، (م.س)، الخطبة 193، ص163.
4.(م.ن).
5.هذا ما نقله عنه السيد الفهري قدس سره في حاشيته على كتاب الآداب المعنوية للصلاة، ص24.
6.الآداب المعنوية للصلاة، (م.س)، ص39.
7.(م.ن).
8.مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي.