السيد علي عباس الموسوي
المخلوق الإنساني هو من عداد أضعف المخلوقات الإلهيّة في لحظة ولادته. لا يملك أي قدرة على البقاء حيّاً لو ترك وحده. ولولا الرعاية الإلهية التي جعلت في فطرة الأبوين الاهتمام والعناية به، لانقطع نسل الإنسان، الذي يبدأ باكتساب القوى تدريجياً، وببطء نسبي قياساً بسائر المخلوقات.
هذا الإنسان، بما وصفناه أعلاه، هو الذي يهيمن على الأرض كلّها، وقد سخّرها الله عزَّ وجلّ له. يكبر ويمتلك القوى التي تؤهله ليكون سيّد هذه الأرض، وبالفعل يصبح هذا الإنسان هو المسيطر على الكون كله يتصرّف فيه.
ويعترف الإنسان بلسان الحال والمقال، ولا مجال له للإنكار، بأنّ هذا كله بفضل ما ميّزه به خالقه عن سائر المخلوقات، أي بالعقل وحده، دون سائر الصفات والخصائص، لأنّ في سائر المخلوقات من العناصر ما يفوق به قدرات الإنسان بدرجات.
وهذا الإنسان، عندما يرى قدرته تلك على التصرّف في الأرض وعلى التحكّم حتى بأعظم الحيوانات قوّةً وقدرة، وبأعظم الظواهر التكوينيّة كالجبال التي يتمكّن من أن يزيلها بعزمه، وإرادته، وبعقله لا بقوة جسده، ينتابه في كثير من الأحيان الغرور، ويشعر بعظمة نفسه، ويدخل في نفسه العُجْب العظيم.
ويصل به ذلك العُجْب إلى أن يتجاوز، في تكبّره وما يراه من عظَمة نفسه، الحدّ المعقول؛ فيرى لنفسه الفضل في ذلك كله، وينسى خالقه الذي أعطاه كلّ ما لولاه لما كتب له البقاء منذ لحظات ولادته الأولى، فينكر هذا الخالق تماماً، وإن تنزّلت حالة الكبر لديه، آمن بهذا الخالق، ولكنه يتكبّر عليه بالتصرف والسلوك، فلا يخضَع له ولا يُطيع أمره ونهيه، بل يتعمّد أحياناً معصيته فينكره فعلاً وإن لم ينكره قولاً.
ولكنّ خالقه الرحيم لم يهمله، وهو العليم به وأقرب إليه من حبل الوريد، فوَاتر إليه أنبياءه ورسله لكي يذكّروه منسيّ نعمته، ويخرجوه من غفلته، وينبّهوه إلى عدم التكبّر على خالقه واللجوء إلى طاعته وامتثال أمره.
ولكن، من الناس من عَرَف قدر نفسه، فعلم بالفعل أن كلّ ما يقوى على القيام به في هذه الدنيا، هو من مواهب ربٍ رحيمٍ كريم، وأنّه لولا عطاياه لعجز حتى عن الوصول إلى الطعام الذي يقيه الموت جوعاً.
وأرقى منه مَن ترقّى في درجات المعرفة وطوى مراتب التفكّر والتدبّر في خلق السماوات والأرض، فعلم أنّ كل فعل يصدر عنه حتى ما كان منه طاعةً لله عزَّ وجلَّ وامثتالاً لأمره ونهيه هو من توفيق الله له، وأنّه لولا العناية الإلهية لَما وفّق ليكون في محضر الطاعة للرحمن.
إنّهم الذين يبادرون إلى فعل الخير في كلّ الحالات. وما يميّزهم صفة أخرى هي أنهم يذكرون الله دائماً، وذلك لأنّهم يدعونه في كل الحالات، سواء أكانوا في شدّة أم في رخاء، لما تيقّنوه من أنّ كل ما لديهم هو من عند الله.
وأعظم وأجلّ من ذلك صفة الخضوع في نفوسهم، حيث تراهم في حالة خشوع دائم لله؛ لأنهم لا يرون لأنفسهم أي رفعة أو شأن أمام الذات الإلهية. إنّهم الموصوفون في كتاب الله بقوله: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: 89-90).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.