مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

حياتنا بين الغيب والشهادة


السيّد د. صادق الموسوي


تترك الرؤية الكونيّة أثرها على حياة الإنسان وسلوكه وتصرّفاته، فمعرفة الفرد للكون بأبعاده المختلفة وإدراكه المعنى الحقيقيّ للحياة وفهمه لنفسه وقواها المتعدّدة، تترك الأثر الفعّال على تصوّره وتصديقه، خاصّةً إذا كانت منظومة الاعتقاد مُحكمة البُنيان واضحة المعالم، تستطيع أن تُجيب عن تساؤلات الإنسان الكبرى. ومن سِمات المنظومة العقائدية الإسلامية أنّ العقل هو الطريق إليها، والدليل عليها، وأنّها مترابطة العناصر، حيث تعطي تصوّراً مترابطاً ومتكاملاً عن الدنيا والآخرة والإنسان والخَلق، والروح والقلب، والغيب والشهادة.

*الإيمان بالغيب مقدّمة التوحيد
يُعدّ مفهوم الغيب، الحاضر في إدراكنا، الخفيّ عن حواسّنا، أحد أركان التصوّر الإسلامي للتوحيد أوّلاً، وسمَة في حياة المتّقين ثانياً؛ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة: 3)، ويتكامل مع مفهوم الشهادة ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ (المؤمنون: 92)، ليعطيا الصورة السليمة والمتكاملة التي يبني وفقها الإنسان وعيه وغايته وأفعاله وأقواله، وتترتّب عليهما تساؤلات حول الارتباط بين عالم الغيب والطبيعة، وأثر كلّ منهما على حاضِره ومستقبله.

وثمة الكثير من المفاهيم والعقائد الإسلامية التي تتوقّف على الإيمان بوجود عالم الغيب، ومنها ما يرتبط بهَيمنة عالم الغيب على الشهادة (الطبيعة). من جملة هذه المفاهيم: القضاء والقدر- الرزق- صلاة الاستسقاء لتنزّل الماء- صلة الرحم التي تطيل العمر- الصدقة التي تدفع البلاء- والدعاء سلاح المؤمن...

هذه المفاهيم تربط طرفاً من عالم الطبيعة كسبب، مع سبب آخر من عالم الغيب؛ لتصبّ نتائج النوعين من الأسباب في عالم الطبيعة (الماديّ).

إذاً، جميعها يعتمد على مبدأ الإيمان بالغيب فضلاً عن تأثيره في حياتنا الدنيويّة. وللتوضيح:
1- القضاء والقدر
يشكّل مبدأ "القضاء والقدر" أحد المداخل المهمّة لفَهم تأثير الغيب والشهادة في الحياة، حيث يُوضح لنا أنّ "مبدأ العليّة العامّة ونظام الأسباب والمسبّبات حاكِم على العالم وعلى الحوادث والوقائع فيه، فكلّ حادث يكتسب ضرورته من العلل السابقة عليه"(1).

هذا الفهم المتقدِّم لموضوع "القضاء والقدر" الإشكاليّ يكشف لنا عن وجود قانون لا يتبدّل ولا يتخلَّف، حاكِم على عالم المادة والطبيعة بحيث يتوقف جريان الأحداث على استغلاله وتوخّيه. هذا المعنى يتّفق عليه الماديّون مع الإلهيّين، حيث يشكّل جذراً مشتركاً بينهما، لكن ما هو وجه الاختلاف بينهما؟

أولاً: يعتبر الإلهيّون أنّ أصل هذا النظام لم يكن نتيجة تخبّط عشوائيّ لا غائيّ بحيث تركّب من آلاف الصدف، إنّما هو نتيجة علل غائيّة متجسّدة في عالِمٍ قادر حكيم، دبّرَ أمر هذا النظام الأكمل، وأوجده ليلائم ويحقّق تكاملاً على الأرض محوَره الإنسان. فعالم الغيب هو المنطلق والأساس لعالم الطبيعة. وهو عالَمٌ لم يُخلق ويترك، إنّما أُوجدَ وبقيت هدايته وتدبيراته مستمرّةً تجري مجرى الشمس والقمر: ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾ (الحجر: 21).

ثانياً: إنّ علل الحوادث تنقسم إلى قسمين: علل ماديّة وعلل غيبيّة.

يجب على المكلّف أن يكتشف ويتوخّى العلل الماديّة الطبيعيّة. وإلى جانب اهتمامه بها، عليه الالتفات إلى العلل الغيبيّة، لأنّ ارتباطها بالنتائج لا يقلّ أهميّةً وتأثيراً عن العلل الماديّة، بل إنّ العلل الغيبيّة متزامنة وحاكمة على النتائج المادية في حياة الإنسان، سواء كجزء من العلل أو كعلّة منحصرة وحدها.

2- الأرزاق مقسومة بين السماء والأرض
عندما يسعى الإنسان للحصول على رزق وافٍ، عليه أن يقوم بالأسباب الماديّة المتمثّلة بدراسة الجدوى، وجودة المنتج، وتميّز التسويق، ورغبة المستهلك وتناسب الأسعار، وعليه أن يسبّب العلل الغيبيّة، فيقوم لصلاة الليل، ويتصدّق ويبرّ أهل بيته ويدعو لغيره.

إنّ وجه تسمية هذه الأفعال بالعلل الغيبيّة هو أنّ الإنسان لا يمكن له خلال دراساته الاقتصادية أن يربط بينها وبين نتائجها، فكيف يمكن لصلاة الليل أن تكون سبباً لزيادة الرزق؟ وكيف يمكن لصلة الأرحام أن تكون علّةً لطول الأعمار؟ هذا الارتباط الغيبيّ لا يمكن معرفته إلّا من خلال قنوات التواصل مع الغيب المتمثّلة بالأنبياء عليهم السلام.

إذا التفت الإنسان إلى وجود هذه العلل، فسيقرّب الارتباط بينه وبين الغيب الذي يؤثّر في حياته اليومية وفي رزقه وتوفيقه ونجاته وأمانه وتطويل عمره، وسيقوده أيضاً لتحليل حوادث حياته في عالم الطبيعة تفسيراً يعتمد على بُعدين ماديّ وغيبيّ. فسبب انحباس الرزق عائدٌ إمّا إلى العلل المادية التي ربّما قد أهملها الإنسان وإمّا إلى العلل الغيبيّة التي ربّما قد تركها، وهذا يدفعه إلى استبعاد (الصدفة والحظّ والنحس)، ويقوده إلى تدبّر أكثر عمقاً في اختياره انطلاقاً من الآية ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (النجم: 39).

3- التقوى علّة الفرج

حثّ القرآن الإنسان على أن يتلقّف الأسباب الغيبية المؤثّرة في حياته في عالم الطبيعة، وشدّد على ذلك لعلم الله تعالى أنّ الإنسان يأنس بعالم المادة ويرتبط به ويظن أنّه مسبّب الأسباب ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الروم: 7). لذا، ركّز القرآن الكريم على الغيب والأسباب الغيبية: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ (الطلاق: 2-3). كما أعطى نماذج عمليّة عجز عالم المادة عن الوصول إلى نتائجه وتدخّلت العلل الغيبيّة لتقوم بدور البديل، حيث يعرض الله لنا قصة النبيّ زكريا عليه السلام الذي لم تسعفه الأسباب المادية على إنجاب ولد له في ظروفه ﴿إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ (مريم: 4) إضافة إلى ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ (مريم: 5)، حتّى إنّه تعجّب حين بُشّر بيحيى عليه السلام من تجاوز عوائق عالم المادة ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ (مريم: 8)، لكنّ الله تعالى يذكر أنّ الأسباب الغيبية كانت وراء هذه المعجزة العظيمة ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء: 90).

إذاً، هناك نتائج واقعية مادية يمكنها أن تخضع للقياس والتجربة، تأتي عِللها أو بعض أسبابها من عالم الغيب، وهذا لا يعني أنّها عشوائية لا تخضع لقانون... بل غاية الأمر أنّ اختيار الإنسان وفعله لهما ترجمة خاصة في عالم الغيب، تؤتي بعض ثمارها في عالم الدنيا، كما سيكون بعضها الآخر حاضراً في الحياة الآخرة.


1. الإنسان والقضاء والقدر، مرتضى مطهري، ص71.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع