السيد أبو علي الموسوي
البحث عن طبيعة العلاقة بين الإنسان والنصر أليس كالبحث عن نوع العلاقة المتبادلة بين الإنسان والطبيعة؟ فإن العلاقة الثانية والتي مسرحها الإنسان والطبيعة باعتبارها فعلاً وانفعالاً في عملية الإبداع في الحوادث التاريخية بحيث قُدِّر له أن يصنع الحدث التاريخي بإرادته واختياره أفتكون الكلمة الأخيرة في صياغة الحدث بيده، لاتخاذه الموقف المنسجم مع قدراته المتنوِّعة التي تُتيح له عملية التغيير والتبديل بما يتوافق مع مختاراته لا بما تقتضيه الطبيعة أو الحوادث التاريخية من هذا النوع إلاَّ نتاجٌ لهذا التقابل بين الإنسان والطبيعة فعلاً وإنفعالاً والمُمسك بزمام المبادرة هو الإنسان لا الطبيعة، بحيث يُخضع أوليَّاتها لإرادته، فيُعدِّل في جوانب نشاطه ليقدر على صياغة الحدث بما سُخِّر له من أوليَّات الطبيعة المسخَّرة له مع ما عليه من ممارسة التمرد على إرادة الإنسان، وهذا مما يستفزُّ ردة الفعل لدى الإنسان ممَّا يمكِّنه من بلوغ غاياته، وقد عرفت أن مفتاح هذه العلاقة التبادلية تكمن في الإنسان.
وأما العلاقة الأولى والتي مسرحها الإنسان مع أخيه الإنسان فليست علاقة فعل وإنفعال حتى تكون القدرة على التحكم والإمساك بزمام المبادرة بيد أحدهما على حساب الآخر، وإنما علاقة فعل وفعل فيها تتصادم الإرادات، فمن حيث المعادلة هذه لا مرجِّح لأحدهما على التحكم في الآخر، والخلاصة أنه لا يوجد من حيث المبدأ في هذه العلاقة من يُمسك بزمام المبادرة ويُعطي الصياغة النهائية المحددة للحدث التاريخي وفق تطلُّعاته، نعم قد تتراءى قوة التحكُّم هذه لمن كان له التفوق الكمي والكيفي على حساب الفاقد لهذه الخصيصة. إلاَّ أن القرآن الكريم بعد أن يربط النصر باللَّه سبحانه(1) بوصفه خالق الإنسان والنصر وأنه هو الذي يمنح النصر لفئة على حساب أخرى، يرى أن هذه المنحة الإلهية ليست مجانية حتى للمؤمنين وإنما تقوم على أساس عناصر أربعة:
1 - نصرة اللَّه(2) تعالى، بنصرة دينه والدفاع عن حياضه وتوطيد دعائمه، ونشر أركانه، ولا يكون القتال إلا إعلاءاً لكلمته تعالى، وهذا موجب لإنزال اللَّه نصره بمن ينصره.
2 - تقوى اللَّه تعالى، وهذا العامل مضافاً إلى كونه مستبطناً ضمن العنصر الأول، فإن نصرة الدين لا تتأتَّى إلاَّ ممن اتقى اللَّه على طريقة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (سورة الرعد: 11) حيث تشعر هذه الآية الشريفة إلى العلاقة فيما بين تغييرين: التغيير بحسب المظهر والشكل والتغيير بحسب المحتوى والمضمون وأن التغيير الأول من مظاهر الثاني ونتاج له، وبعبارة أخرى: فإن هذه الآية تربط بين نوعين من الانتصار، وأن أحدهما من نتائج الثاني وهما انتصار الإنسان على ذاته والتزامه بالقيم العليا وشهواته ضمن إطار تقوى اللَّه تعالى وانتصار الإنسان في ميادين الحرب وأن الانتصار الثاني من نتائج الأول. أقول: مضافاً إلى كونه مستبطناً ضمن العامل الأول فقد نطقت به بعض الآيات الشريفة قال سبحانه وتعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾(3). والتقوى غير الصبر بمقتضى العطف الذي يستدعي المغايرة ولنكتة أخرى نشير إليها في عامل الصبر (4).
3 - الصبر وما يقتضيه من الاستعانة باللَّه وتفويض الأمور إلى اللَّه سبحانه الذي بيده مقادير النصر والآيات في ذلك كثيرة والروايات متظافرة بل متواترة وللمزيد نحيلك إلى الهوامش التالية(5). ثم الصبر إن كان عند ما حرَّم اللَّه تعالى فذلك يرجع إلى عامل التقوى السابق، وإنما الصبر الذي هو عامل مستقل في قبال السابق الذي هو نتاج الاستعانة باللَّه وتفويض أمر النصر إليه تعالى، وهذا الصبر نحو من الثبات وعدم استعجال النتائج وعدم تسرُّب اليأس إلى نفوسهم وزيادة العزم، والذي منه الصبر عند المصيبة والآلام(6) التي تحلُّ بالفئة المؤمنة نتيجة الكثرة في عدة وعدد العدو، والصبر على الفتن التي تحول بين الفئة الصابرة وبين هدفهم من الانتصار على الفئة الظالمة يتحملون كل ذلك صبراً واحتساباً عند اللَّه لأجل الوصول إلى الهدف المنشود، مما وعده اللَّه لصالح عباده من النصر بإذنه. وهذا النحو من الصبر غير عامل التقوى. وإلى هذه العناصر أشار أمير الكلام القرآن الناطق علي بن أبي طالب عليه السلام في كلام له في نهج البلاغة(7). وهذه العناصر إذا ما اجتمعت يصبح النصر الإلهي حتمية قرآنية تاريخية. ولو تخلف واحد من هذه العناصر ستكون الهزيمة هي النتيجة الحتمية. أما العنصر الأول فواضح، وهكذا الثاني فإن التاريخ الإسلامي يحدثنا عن السبب الرئيسي في الهزيمة التي لحقت المسلمين بمعركة أُحد وأنها فقدان عامل التقوى وعدم إئتمار جماعة من المرابطين بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله طمعاً في اقتسام الغنيمة، فدارت دائرة العدو وجاؤوا من خلف المسلمين وجرى ما جرى، حتى قُتل فيها أسدُ اللَّه حمزة بن عبد المطلب. وهكذا فيما لو تخلف العنصر الثالث كما تحدثنا الآيات القرآنية عن واقعة حنين، وأنهم أعملوا الحسابات المادية ومشوا مع ظاهر الأسباب وأن كثرتهم في العدد سبب في انتصارهم بعد أن انتصروا وهم قلة إلاَّ أنها لم تغنِ عنهم شيئاً فلم يؤذن(8) لهم بالنصر.
والخلاصة أن الآيات القرآنية تفرض حتمية تاريخية قرآنية لانتصار الفئة المؤمنة إذا ما اكتملت هذه العناصر، بقي: 4 - أن هناك أسباباً ظاهرية للنصر، يرفض القرآن الكريم أن تكون هي العوامل في الانتصار، من قبيل كثرة العدد، وذلة الطرف المقابل وقلَّته، فمثلاً في بدر أنزل اللَّه النصر على المؤمنين وهم(9) أذلة، كما أن الكثرة العددية التي أعجبتهم يوم حنين لم تكتب لهم النصر رغم أنهم انتصروا وهم أقل من ذلك بكثير، وما ذلك إلاَّ لأن النصر من عند اللَّه، ولا يأذن سبحانه وتعالى بنزوله إلا ضمن معطيات وشروط قد عرفتها، ليس منها كثرة العدد والعدة.
- مما تنبغي الإشارة إليه أن النصر إذا ما اكتملت شروطه الحتمية يمكن أن نفسِّره بأحد تفسيرين:
1 - على أساس أن عاملاً غيبياً وتدخلاً ربَّانياً مباشراً ينزل اللَّه فيه النصر على الفئة القليلة الصابرة.
2 - على أساس عامل موضوعي محسوس وأن نصر اللَّه تعالى يتجسد بجملة أمور كما يشير إلى ذلك بعض الآيات التي تفسِّر النصر، بإنزال السكينة على النبي وعلى الجماعة المؤمنة وإنزال الجنود التي لا ترونها لأجل نصرتكم فيمدكم بثلاثة آلاف أو خمسة آلاف منهم ويربط على قلوبكم ويثبت الأقدام ويُلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ويكثركم في أعينهم، ويقلِّلهم في أعينكم، وهذا ما تشير إليه بعض الروايات عن جابر وأن جملة من الخصال التي اختصَّ بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أن النصر بالرعب(10). وفي الختام فإن المقاومة الإسلامية وما أنجزته في مثل هذه الأيام المصداق البارز لهذه الحتمية القرآنية التاريخية بشروطها التي تلوتها عليك. والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.
(1) قال اللَّه تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ (آل عمران: 126)، وقوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة البقرة: 249)، وقال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ (الأنفال: 10) إلى غيرها من الآيات وأحاديث أهل البيت عليهم السلام وأدعيتهم التي تنطق بأن النصر من عند اللَّه تعالى.
(2) قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ (سورة الحج: 40)، وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ (سورة محمد: 7)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (سورة الصافات: 173)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ (المائدة: 56).
(3) سورة آل عمران: 125.
(4) وأيضاً قوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص: 83)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128).
(5) فمنها قوله تعالى: ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ﴾(آل عمران: 125) الآية، ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (الأنفال) 65)، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ (الأعراف: 137) الآية، وقوله تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ﴾(الأعراف: 128) إلى غيرها من الآيات، وأما الروايات فمن كلام لعلي عليه السلام: "من ركب مراكب الصبر إهتدى إلى ميدان النصر" كنز الفوائد ص58، وفي رواية مالك بن أعين قال حرَّض الأمير عليه السلام الناس بصفين إلى أن قال: "واستعينوا بالصبر والصدق فإنما ينزل النصر بعد الصبر" الوسائل ج15 ص96، وفي نفس المصدر واستعينوا بالصبر فإن بعد الصبر النصر من اللَّه عزّ وجلّ، مستدرك الوسائل ج11 ص86، وعن النبي صلى الله عليه وآله: "فإن بعد الصبر ينزل النصر"، وفي آخر عنه صلى الله عليه وآله: "واعلم أن النصر مع الصبر"، في ص163، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "بعث اللَّه نبياً إلى قوم فشكا إلى اللَّه الضعف فأوحى اللَّه عزّ وجلّ إليه أن النصر يأتيك بعد خمس عشرة سنة فقال لأصحابه: إن اللَّه عزّ وجلّ أمرني بقتال بني فلان فشكوا إليه الضعف فقال لهم: إن اللَّه قد أوحى إليَّ أن النصر يأتيني بعد خمس عشرة سنة فقالوا: ما شاء اللَّه لا حول ولا قوة إلا باللَّه قال: فأتاهم اللَّه بالنصر في سنتهم لتفويضهم إلى اللَّه بقولهم: ما شاء اللَّه ولا قوة إلا باللَّه، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يعدم الصبر الظفر وإن كان به الزمان"، مستدرك الوسائل ج5 ص222 عن مجموعة الشيخ ورام في تنبيه الخواطر.
(6) من الدمار وفراق الأحبة والأعزاء.
(7) ولقد كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلاَّ إيماناً وتسليماً ومضياً على اللقم (معظم الطريق) وصبراً على مضض الألم وجداً في جهاد العدو ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتحالسان أنفسهما أيهما يُسقي صاحبه كأس المنون فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا، فلما رأى اللَّه صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام مُلقياً جرانه ومتبوئاً أوطانه "نهج البلاغة ج1 ص105".
(8) قال سبحانه: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ (التوبة: 25).
(9) قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾(آل عمران: 123). وقوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾.
(10) نيل الأوطار للشوكاني ج1 ص330.