نسرين إدريس
الاسم: جلال حسن رمال
اسم الأم: فاطمة رمال
محل وتاريخ الولادة:
الدوير 01/04/1965
الوضع العائلي: متزوج وله ولدان.
رقم السجل: 144
مكان وتاريخ الاستشهاد: طريق كوكبا - حاصبيا 03/05/2000
قد لا تنتهي الدنيا عندما نفقد من نحب.. ولكنها تصبح
فارغة من الحياة... كلمات تنساب بهمس في الحديث عن الشهيد القائد جلال رمال؛ حديث
مبحر في غمار الماضي المرتسم على تعابير الوجوه المتفاعلة مع كل حرف يغزل سكنات
جلال الساكن في صميم قلوب أهله ورفاق دربه وأحبته.. "جلال رمال" المجاهد المغوار
المتنقل بين محاور الجنوب والبقاع الغربي يزرع بين أثلام الجهاد بأساً حيدرياً
وعزماً خمينياً، ولد في الشياح وتربى في منطقة برج البراجنة؛ وهو سادس إخوته
العشرة، فتى شقيٌّ لا يعرف الهدوء، ففضوله الغريب لمعرفة خبايا الأشياء وأسرارها
جعلت منه متطفلاً خفيف الظل ومخرباً لا تكاد تسلم من استكشافاته لعبة أو حتى آلة
استغنى الأهل عنها.. في بيئة ملتزمة التزاما تقليديا إلى حدٍّ ما، تعلم جلال أصول
الدين والتزم بواجباته الدينية منذ التكليف، لكن طقوس الديانة التقليدية تبدل وتعمق
أكثر عندما أعاد الإمام الخميني قدس الله سره الدين المحمدي إلى أصالته مجدداً بذلك
المفاهيم الحقيقية للالتزام والتدين، وكانت عائلة الحاج أبو محمد والد الشهيد جلال
من الذين التحقوا بالتيار الخميني بعد فهم واع لذاك الخط الذي جعل من الأمة
الإسلامية أمة لها حضورها الديني والسياسي..
عايش جلال بدايات الحروب في لبنان، وكان عمر مراهقته شرفة تطل على نزاعات سياسية
عسكرية ودينية صقلت في داخله الرجل الذي يأبى أن يمد الاستبداد ظلاله على أطراف
حياته، فمن عرف العيش تحت الشمس لا يمكن أن يحيا دونها.. وفي خضم التجاذبات كان
خياره المقاومة الإسلامية التي انطلقت عند الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان وأذاقت
الجيش الصهيوني طعم الهزيمة الأولى مغيرة بذلك مسار تاريخ أمة وأفراد وجدوا فيها
الملاذ الحقيقي الذي يوصلهم إلى حيث رضا اللّه..
بين بيروت والدوير والقذائف التي أحرقت أحلام الناس فجعلتها خرابا تنعق فيه غربان
الحرب، كان من الصعب أن يختزل جلال نفسه من تصنيف موقفه، ولم يعد يرى في الكتب
والدفاتر المدرسية ما يروي في نفسه التمرد المحلق في فضاء روحه بأن يغير شيئاً ما
في الواقع المرير المفروض عليه وعلى أمته، وأمام قوافل الشهداء الذين ضخوا في الأمة
الرفض والعزيمة، ومنحوها الانتماء الحر في وطن محتل، قرر جلال أن يترك الدراسة
الأكاديمية ليلتحق بصفوف المقاومة الإسلامية عوضا عن الالتحاق بالجامعة، تاركاً
طموحاته الدنيوية وتطلعاته نحو مستقبل مفترش بالراحة، وقد انس والبندقية أنس الإمام
علي بن أبي طالب عليه السلام بحد سيف ابن ملجم عند الفجر وصوته يتمتم "فزت ورب
الكعبة"..
"المقاومة الإسلامية" عشقُ جلال المنقوش في أوداجه، والشهادة حلمه الذي كبر مع
الزمن.. شابٌ حزم أمتعة أيامه ليسكن المحاور وتسكنه.. من إقليم التفاح حيث بدأت
مسيرة جهاده، إلى جبل صافي الشامخ عزاً بمن جعلوا من مغاوره مرابض دكت مواقع الكفر
فجعلتها كعصفٍ مأكول، فالمحاور المتقدمة، أدى جلال تكليفه الشرعي بالجهاد والدفاع
عن مقدسات الأمة ملتزماً بأدق التفاصيل، وقد التحق بالعديد من الدورات العسكرية
العادية والتخصصية ما جعلته يضطلع بالعديد من المهام الصعبة فيشارك في إعدادها
وتنفيذها.. رجلٌ هاجرت روحه إلى اللّه، وسلكت طريق تعبده طائعة، فتجلت أمام
عينيه حقيقة الدنيا، ورمق ببصيرته الحياة الآخرة.. لقد جذب روحه لتصبح خالصةً
للّه لا يشوبها شائبة، فاستحق الشهادة التي منّ اللّه بها عليه.. المجاهد الصامت
الذي لا أحد يعرف طبيعة عمله، كان يخفف عن والدته التي تواكبه بالأسئلة عن حاله،
بأشياء تريح قلق نفسها، فيسرّ لها بما لا دخل له بحقيقة عمله، فتهدأ نفسها وتلهج
شفتاها بالدعاء له ولإخوته المجاهدين، وهو يستعد للذهاب إلى الجنوب ليواكب رفاق
الدرب وزملاء المسيرة.
لقد كان الشهيد جلال يُجيد نحتَ الضحكة على أكثر الوجوه وجوماً، ولم تستطع غيوم
همٍّ أن تصمد أمام شمس بسمته، فنكاته الحاضرة دوماً على طرف لسانه، وضحكته
المتصاعدة من صميم قلبه والتي تدلف مباشرةً إلى قلوب من حوله جعلتا منه وسادةَ أمل
تحتضن ألم رفاقه، فيخفف عنهم بلباقة حديثه وتفهمه العميق لآلامهم.. أما هو فإذا ما
سرقه من مرحه همّ جلس وحده وسافر في صمته إلى مكانٍ لا يعلمه أحد إلا اللّه،
فالشرود الذي سرعان ما يلقي بنقابه على وجه جلال يُنبىء عن مخزونٍ من الأفكار
المتضاربة داخله، ولا أحد يستطيع أن يعرفها إلا من أجاد قراءة سكوت جلال.. متصلبٌ
برأيه لا يتراجع عنه إلا إذا اقتنع بغيره.. مناقشٌ فذ ومثقفٌ واعٍ، ومجاهدٌ مغوار
يضرب بشجاعة من يمتلك اليقين الحقيقي، أضف إلى ذلك فجلال هو طاهٍ ماهر طالما قدّم
أطباقاً لذيذة تباهى بها أمام رفاقه الذين سرعان ما يمتدحون ذوقه الراقي ونفسه
الطيب.. وأحداً لا يستطيع القول أن من عرف جلال حق المعرفة استطاع أن يبقيه
شخصاً في حياته، لأن تعاطيه الخلاق فرض على الاخرين أن يبقى شخصاً مميزاً في أنفسهم
بالاحترام والحب..
عام 1991 تزوج جلال، ولكن شيئاً لم يتغير في ذوبانه الخالص بعمله، وعلى الرغم من كل
المصاعب المادية والمعنوية التي عصفت بحياته، فقد جابهها بإيمان وتوكل على اللّه،
غير أن حادثة استشهاد شقيقه الشهيد منذر رمال أثناء تأدية واجبه الشرعي عام 1995،
كانت صفعةً آلمته إلى حدِّ أنه كره كل لحظةٍ من لحظات حياته بعده، وكانت المرة
الأولى التي بكى فيها جلال من أعماق قلبه، مع أنه كلما شيّع شهيداً من رفاقه سعد
لأجله وغبطه على ما ناله.. كان جلال يعود من العمل ليقضي أوقاتاً جميلة مع طفليه
"علي" و"زينب" اللذين رُزق بهما في سنتين متتاليتين، وكانت فرحته لا توصف وهو
يراهما يكبران أمام عينيه.. و"زينب" كانت الحضن الرقيق الذي يدفن فيه خبايا نفسه،
ويرى في وجهها الصبوح شمس روحه التي أفلت.. لكنّ زينب لم تبقَ معه، فقد ذهبت إلى
المدرسة أسبوعاً واحداً من سنتها المدرسية الأولى، وأصيبت بعارض صحي توفيت على إثره
بورم في الرأس.. ماتت "زينب" وغاب معها مرح جلال، بقي تعاطيه مع أهله ورفاقه
طبيعياً، إلا أن الحزن الذي استوطن في مقلتيه صار انعكاساً واضحاً للوجع العميق
بداخله، ولكنّ اللّه منّ عليه بطفلٍ آخر خفف من ألم رحيل زينب وقد اسماه "حسين"..
كلما سقط شهيد اتسعَ جرحُ الدنيا في نفس جلال، وكلما كُتبت هزيمة للجيش الإسرائيلي،
وجل قلبه أن يغادروا وهو لا يزال حياً، فلكم عاتب بندقيته، ولكم أسف على نفسه
التي ما فتىء يُبعد عنها الغفلة لتصبح طريق الآخرة سهلةً عليه.. في أحد الأيام
استوقف جلال جارهم في المبنى وطلب إليه أن يتفقد زوجته وعائلته عندما يكون في
العمل، فاستغرب جاره لهذا الطلب الذي طلبه جلال من جارتهم أيضاً..
نهار الاثنين 1 أيار جلس جلال صباحاً على الشرفة وراح يتذكر رفاقه ويتصل بهم واحداً
تلو الآخر، ما أثار دهشة زوجته التي استغربت لهذا التصرف، ثم ما لبث أن هيأ حقيبته
وودعها موصياً إياها بالأولاد.. مرّ يومان وقد استبد القلق الرهيب بزوجته التي كلما
اتصل بها طلبت إليه العودة سريعاً، وهو يطمئنها أنه سيعود نهار الخميس.. ليلة
الأربعاء استيقظت على صوت تحليق الطائرات الحربية فوق الجنوب والبقاع الغربي
والعاصمة، فلم يغمض لها جفن طوال الليل.. عند الصباح أخبرتها إحدى الجارات أن
الطائرات قصفت البقاع الغربي فارتاح قلبها ظناً منها أن جلال في الجنوب.. لكنها
عرفت فيما بعد أن الطائرات كان تقصف على المجموعة التي كان جلال من ضمنها، والتي
كانت متوجهة في مهمة استشهادية هدفها أسر إسرائيليين، فاستشهد مع الشهيد القائد
حسين مهدي محمد علي الحاج كربلاء. لقد ارتاحت نفسُ جلال بنيله شهادةً مباركة قبل أن
يبصر فلول الصهاينة تفر كالفئران المذعورة من الجنوب.. ولكن مع رحيل جلال شعر جميع
أهله باليتم، ورفاقُ دربه الأوفياء يستذكرون بسمته كلما لاح الحزنُ في أفق أيامهم،
ليأنسوا بشفافيتها وليبصروا من خلالها المعنى الحقيقي للسعادة التي طالما امن بها
جلال.. رحل جلال، وبقيتْ الأيام وردةً حمراء تئنُّ على قبره اشتياقاً لا يعرف
معنىً للنسيان..
* من وصية الشهيد:
"أيها الناس، ألا إن الموت آتٍ لا محالة وإنا قومٌ نأبى أن نؤتى نياماً، فنأتي
الموت، نلقى به الأعداء، فإن وقعنا عليه فقد اخترناه وإن وقع علينا استقبلناه
واقفين شامخين شاكرين إياه، فوحده الموت يبعث حياة اللقاء باللطيف الحبيب، من لا
يُظلم عنده أحد، أحبوا اللّه حق محبته تعشقون لقاءه.. أيها الناس: من كان بين
جنباته ولو قليل من الشرف والعزة فإنه ينتفض كالمذبوح مفضلاً الفناء على أن ينهزم
لحفنة من النجاسات والقاذورات، نعم لقد دسناهم بأقدامنا، مرغنا أنوفهم بالتراب،
مزقناهم إرباً، إنهم أكثر المخلوقات جبناً، ألم تسمعوا عويلهم كالثكلى، بئس كل من
يهزم لمثلهم، بئس كل من يجبن عن حربهم، إن دماء شهداء حزب اللّه ستبقى تطوق أعناق
كل الخائفين، كل المترددين، كل المشككين.. إخواني في المقاومة الإسلامية: إن منَّ
اللّه علي بالشهادة سأدعوه أن أقاتل بجنبكم ولو بثوب الشهادة، فإني أعشق أن أذل
الصهاينة، وألقى الأسى بقرع جماجمهم، فلكأن ذلك أحب إلي من الجنة، إن كنتم تغبطوني
على الشهادة فسأبقى أغبطكم على نعمة الجهاد إياكم ثم إياكم والتفريط بها، لن تفعلوا
إن شاء اللّه لأن نفوسكم أبية تأبى الذل والهوان، لأنكم بكيتم بحق على الإمام
الحسين عليه السلام وأصحابه.."
(*) حائز على تنويه الأمين العام السيد حسن نصر الله عدة مرات