الشيخ يوسف علي سبيتي(*)
الخوارج ظاهرة تاريخيّة خطيرة، حيث كان ظاهرهم عبّاد
الليل ونُسّاك النهار، لكن في باطنهم يقاتلون الحقّ في محرابه. وما زالت هذه
الظاهرة ممتدةً إلى حاضرنا بأشكال متعدّدة. فهل تعامل أمير المؤمنين مع "مَن طلب
الحقّ فأخطأه" كتعامله مع "مَن طلب الباطل فوصل إليه"؟
* عندما خرج.. الخوارج
الخوارج جماعة انشقّت أو انفصلت عن جيش العراق الذي كان تحت قيادة أمير المؤمنين
عليه السلام، في معركة صفّين المشهورة، حيث انطلت عليهم حيلة "رفع المصاحف" من
قِبَل جيش معاوية، بعد أن كان جيش العراق قاب قوسين أو أدنى من النصر. وكانت حجّة
معاوية أننا نريد أن نجعل "القرآن" هو الحَكَم لإنهاء هذا الصراع وهذا المقال.
الأمير عليه السلام حذّرهم من الوقوع في هذه الخديعة "فليسوا بأصحاب دين ولا
قرآن، وما رفعوها لكم إلّا خديعة ومكراً"(1)، إلّا أنهم رفضوا الانصياع إلى
نصيحته، وأصرّوا على ما دعاهم إليه معاوية، من تحكيم القرآن "ما يسعنا أن نُدعى إلى
كتاب الله فنأبى أن نقبله"(2).
ثم إنّهم بعد ما جرى من التحكيم، ونزع الخلافة من يد أمير المؤمنين عليه السلام
بسبب خديعة التحكيم، انفصل عن جيش أمير المؤمنين عليه السلام مجموعة كبيرة منه
تُقدَّر بنحو الاثني عشر ألف مقاتل، نزلوا في أرض اسمها النهروان بالقرب من الكوفة.
هنا بدأت فصول مرحلة جديدة من خلافة أمير المؤمنين عليه السلام وهي إعادة تنظيم
صفوف جيشه بعد هذا الانقسام الخطير الذي نتج عنه "الخوارج".
* رفع شبهات
من هنا، نجد أمير المؤمنين عليه السلام يقول عن الخوارج: "لا تقاتلوا الخوارج
بعدي، فليس مَنْ طلبَ الحقّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه"(3).
فالخوارج، كانوا يطلبون الحقّ، إلّا أنّهم أخطأوا بالوصول إلى هذا الحقّ. وخَطَؤهم
هذا، كان نتيجة شُبهات دَخلت عليهم.
وأولى هذه الشبهات: قبولهم التحكيم بسبب خديعة رفع المصاحف.
الشبهة الثانية: رفضهم التحكيم بعد ذلك.
الشبهة الثالثة: طلبهم من الأمير عليه السلام التوبة، لأنّه قد كفر،
بزعمهم، حيث رضي بالتحكيم.
من هنا، نجد أنّ الأمير عليه السلام في احتجاجه عليهم، اهتمّ بإزالة هذه الشبهات،
من تبيين حقيقة التحكيم، وأنّهم قد أخطأوا بقبولهم التحكيم، وأخطأوا برفضهم
التحكيم، بعد ذلك.
ثم دافع عن نفسه من خلال الإشارة إلى أنّه أوّل الناس إسلاماً، فكيف يكون الآن
كافراً بلا سبب موجب لذلك؟ وقد نجح عليه السلام مع الكثيرين منهم في إزالة هذه
الشبهات، وأخفق مع آخرين.
* شُبهة قبول التحكيم ورفضه
قلنا سابقاً، إنّ قبولهم للتحكيم كان بسبب خديعة رفع المصاحف، وإنّ الأمير عليه
السلام حذّرهم من هذه الخديعة، إلا أنهم لم ينصاعوا إلى نصيحته عليه السلام،
وأصرّوا على التحكيم.
ثمّ بعد أن وجدوا أنّ الأمور آلت إلى ما لم يكن بحسبانهم، خاصّة وأنّ عمرو بن العاص
استطاع بمَكره ودهائه أن ينزع الأمر من الحكم الأشعري ووجدوا أن معاوية وأصحابه قد
رفضوا الدخول فيما دخل فيه الناس، قالوا: "حكمت الرجال"(4)، "ولا نرضى بأن يحكم
الرجال في دين الله، إنّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يُقتلوا أو أن
يدخلوا تحت حكمنا عليهم"(5).
* التحكيم خدعة
كان الهدف من التحكيم إذاً، أن يثوب معاوية وأصحابه إلى رشدهم، وأن ينزلوا على حكم
الأمير والبيعة له، فإذا رفضوا ذلك، فليس لهم إلّا القتال. فالقول بالتحكيم مخالف
للقرآن وتحكيم الرجال ليعملوا بالقرآن على هواهم، وطبقاً لمصالحهم الشخصيّة،
البعيدة عن مصلحة الإسلام العليا.
من هنا، كان همّ الأمير عليه السلام توضيح معنى التحكيم وأنّه ليس تحكيم الرجال
"إنّا لم نحكّم الرجال وإنّما حكّمنا القرآن.. ولما دعانا القوم إلى أن نحكّم
القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى:
﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ﴾ (النساء: 59) فردُّه إلى
الله أن نحكم بكتابه"(6).
لكن، الذي يتحمّل مسؤولية ما حصل من التحكيم وتبعاته هم الخوارج أنفسهم؛ لعدم
انصياعهم لنصيحة الأمير عليه السلام بأنّ ذلك مجرّد خديعة ومكر. ومع أنّ الأمير
عليه السلام أراد الاستعداد للحرب ثانية، إلّا أنّهم رفضوا المشاركة معه، إلى أن
يعلن توبته.
من هنا، جاء تأكيده على علاقته برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:
"... أبَعْدَ إيماني بالله وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشهد على
نفسي بالكفر؟
﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ
الْمُهْتَدِينَ﴾
(7).
ويقول أيضاً، عن علاقته برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد كنت أتّبعه
اتّباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَضماً، ويأمرني بالاقتداء
به..."(8)، في إشارة إلى فَرط ملازمته له، وعدم مفارقته إيّاه، ليله ونهاره،
سفراً وحضراً...(9).
فمن كان ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتخلّق بأخلاقه ويتلقّف منه
العلم والحكمة، فسوف يكون إيمانه راسخاً لا يتزعزع ولا يتزلزل.
* حكومة عليّ والمعارضة
نخلص ممّا تقدّم إلى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام عامل الخوارج بمنتهى الحرية
والديمقراطية. لقد كان خليفة وكانوا رعاياه، فكان قادراً على أن ينفذ بحقّهم ما
كانوا يستحقّونه، ولكنّه لم يسجنهم ولم يجلدهم، بل إنّه لم يقطع حتّى نصيبهم من بيت
المال(10).
وعندما كانوا يقطعون عليه خطبته بقولهم: "الحكم لله لا لك يا عليّ" كان يردّ عليهم
بقوله: "كلمة حقّ يُراد بها باطل" أو يقول: "إن لكم عندنا ثلاثاً: لا
نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا
ولا نقاتلكم حتّى تبدؤونا"(11). ولعلّ هذا القدر من الحرية لم يسبق له وجود في
العالم، فما من حكومة عاملت معارضيها بهذا القدر من الديمقراطية(12).
هنا وضع الأمير عليه السلام الأسس التي يجب أن تُعامَل بها المعارضة، ما دامت في
إطارها السلميّ:
1- ممارسة حياتهم الاجتماعيّة بشكلها الطبيعيّ المعتاد، ما دام أنّهم لم يتجاوزوا
السقف المسموح به، وهو حريّة الرأي والتعبير، فلا سجن، ولا إقامة جبرية.
2- عدم حرمانهم حقوقهم المالية والمدنيّة، فلا تصادر أموالهم أو أملاكهم.
3- ولا يُقتلوا بسبب هذه المعارضة.
أمّا إذا مارست المعارضة العنف أو القتل، فلهذا شأن آخر. فإنّ الأمير عليه السلام
لم يقاتل الخوارج إلّا بعد أن عاثوا في الأرض فساداً وبعد قتلهم الصحابي الجليل عبد
الله بن خباب وزوجته.
(*) أستاذ في الحوزة العلميّة.
1- تاريخ الأمم والملوك، الطبري، ج4، ص34 (بتصرف).
2- م.ن.
3- نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص94، رقم 61.
4- تاريخ الأمم والملوك، ج6، ص40.
5- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص93.
6- نهج البلاغة، م.س، ص182 رقم 125.
7- م.ن، ص92 - 93، رقم 58.
8- نهج البلاغة، م.س، ص300 - 301.
9- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، الخوئي، ج12، ص25.
10- الإمام علي في قوّتيه الجاذبة والدافعة، مرتضى مطهري، ص151.
11- تاريخ الأمم والملوك، م.س، ج6، ص41 - 42.
12- الإمام علي في قوّتيه، م.س، ص152.