مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

لماذا تحب علياً؟


إعداد : محمد ناصر الدين


من يحب علياً؟ لم يكن هذا سؤالنا بالطبع لأن الجميع يحب علياً عليه السلام ولم يحبه شيعته فقط الذين شايعوه ووالوه، إنما استولى حبه على قلوب كل من عرف شخصيته وقرأ عنه فنطق بحبه الكثير من العلماء والمثقفين والمفكرين والأدباء من مسلمين ومسيحيين، ولذلك كان السؤال لماذا تحب علياً؟ وذلك لاستكشاف سر تلك المحبة وان كان هذا السؤال فيه كثير من الاستغراب على حد تعبير بعض من سألناهم لأن السؤال الذي يمكن أن يُسأل هو لماذا لا تحب الإمام علي‏ عليه السلام؟ وقد جمعت فيه كل الفضائل والمواهب والصفات والمزايا ومحبته عنوان صحيفة المؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله. إذاً، لماذا تحب علياً عليه السلام؟ هو السؤال الذي حملناه إلى مجموعة من العلماء والمفكرين الذين وقفوا على شاطئ‏ علي‏ عليه السلام يغرفون منه كلما نضبت قلوبهم حباً وولاءً فكان سؤال وإجابات.

توجهنا بالسؤال إلى الوزير السابق الأستاذ جوزف الهاشم فأبدى استغرابه لهذا السؤال الأصعب فعكس السؤال ليجيب على سؤالنا فماذا قال؟
* لماذا تحب الإمام علي بن أبي طالب؟
سؤال فيه كثير من الاستغراب... إذ السؤال الأحجى:

لماذا لا تحب الإمام علي بن أبي طالب وقد اكتنزت نفسه من الفضائل والقيم، ما عزَّ إلاّ عند الرسل الملهمين؟

إنه المثال الأرقى لتجسيد الكينونة البشرية، وتحقيق إنسانية الإنسان بكل صفاتها ومواصفاتها، بل هو قانون روحي أخلاقي إنساني سياسي متكامل، أيقظ الله في ضمير الإنسان وجعله حاضراً في شتى شؤونه اليومية، وانفرد الإمام علي إلى جانب الرسل واحداً من ألسنة الله في الأرض وناطقاً رسمياً باسمه وعلى أزهى مثاله الآدمي. أهل الديانات السماوية، ملحدون هم، إن لم يقرأوا الإمام في مبادراته إلى صالح الأعمال. أهل القلم والعلم والفكر، جاهلون هم، إن لم يقتبسوا من الإمام رجاحة العقل وبديع البلاغة والفصاحة، وجواهر المعاني والتعابير. رجال الدين على اختلاف أديانهم والمذاهب، يواكبون روح الفقه، وروح الله التي تمشي على الأرض، إن استناروا من مباحث العلم الإلهي عند الإمام وكانت خطبة "الأشباح" بعض صلاتهم اليومية. الوالدون والمربون والمرشدون قاصرون هم، مقصّرون، إن لم يعمّموا وصية الإمام لابنه الحسن. القضاة، والعدليّون والمؤتمنون على خواص أمور الناس وعوامها، يتنزهون، بكتاب الإمام إلى قاضيه شُريح بن الحارث. الجيوش والقواد والعسكريون، يتخّلقون بإنسانية السيف وآدابه، إن همُ اقتدوا بكتب الإمام إلى أمراء جيشه. الحكام، كل الحكام على اختلاف دولهم وأنظمتهم ودساتيرهم، معّرضون للزلل والخطأ والخطيئة والانحراف، إن لم يفقهوا الإمام في الموعظة والإنصاف، والتسوية، والدعاء، وإن لم يقرأوا كتابه إلى الأشتر النخعي والى سائر عمال الخراج. والأغنياء والمتخمون والمترفون، إن همُ غضّوا الطرف عن الطبقة السفلى، وأهل البؤسى والمساكين والمحتاجين، سقطوا في زندقة عبادة الربَّين، فكان الملكوت والأرض سجناً لنفوسهم. الذين لا يحبون الإمام هم الذين يجهلونه أو يتجاهلونه. ونحن نحب الإمام لأجلنا نحبه، ولأجلنا نكرّمه، لأجل تكريم بشريّتنا به... لاكتشاف أرجاس نزواتنا من خلال طهارة ذاته... لمعرفة بشاعة نفوسنا في استحضار مرآة نفسه. نحن في حاجة إلى تلمّس دربه، إلى الغوص في حقائقه، إلى استلهام خصائصه، لنستحقّ‏َ معنى الحياة باستشراقاته الملهمة، ونفقه جوهر إنسانيتنا وعدالتنا وسياستنا وثقافتنا وأداءنا وأدياننا.


مفتي حلب سماحة الشيخ أحمد بدر الدين الحسون من سوريا وقف في محراب آل البيت‏ عليهم السلام ليحدِّثنا عن سر محبته للإمام علي عليه السلام فقال:
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ورضوان الله وسلامه على اله الأطهار الأئمة وعلى أصحاب الحبيب المصطفى من سار على هديه من هذه الأمة. حينما أقف في محراب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله لا بد أن يكون الإمام في هذا الموقف هو سيدنا ومولانا علي عليه السلام... والذي حمل هذه الراية النَسَبية الشريفة السامية ومنه تفتحت أزهارها وماست غصونها وانتشر أريجها وأشرق نورها وهديها عبر الزمان وفاح عبيرها وشذاها على كل مكان.وكيف لا ونبي هذه الأمة صلوات الله عليه وعلى اله الأطهار هو الذي طوّق جيد سيدنا علي عليه السلام بأسمى وأغلى وأبهى دُرر عرفت قدر ومقام ومكانة من حمل أسرارها، فها هو الحبيب الأعظم صلى الله عليه وآله يقول لنا يوم الغدير "من كنت مولاه فعلي مولاه.. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"، ومن تلك الساعة المنيرة يغدو الإمام علي كرّم الله وجهه "ولي كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة". وهنا يعجز القلم في الحقيقة عن الإحاطة بسيدي وقرة عيني... أمير المؤمنين... الصدّيق الأكبر.. أخو الرسول صلى الله عليه وآله وخليفته، ولئن عجز القلم... فإن القَلب يفيض بمعانٍ يصوغها لسانٌ استمد عباراته من خفقات قلبي.. بحبه سلام الله عليه، لأني أحبه... نعم أحبه والله.. ومن ذا الذي لا يحبه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا يحبك إلا مؤمن" أليس هو الذي قال فيه المصطفى "لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.." وكانت راية النصر في خيبر على يديه وفيهما. أوليس هو أول من صلّى مع رسول الله على وجه الأرض كما روى زيد بن أرقم. أوليس هو الذي كان أول فدائي نام في فراش رسول الله ليلة الهجرة يفديه بنفسه وروحه. سلوا من شئتم، بدراً وأُحداً، وسلوا الخندق، الحديبية.. وسلوا خيبر من دكّ حصونها وقلاعها؟ ومن اقتلع الباب بيده الطاهرة، سلوا الزمان والتاريخ والسِّيَرَ عن الرجل الذي قال عن نفسه "والذي بعث محمداً بالحق إنني لأعرف طرق السماء كما أعرف طرق الأرض" سلوا القضاء عن عدله والصحابة عن فقهه وعلمه. إنه جامعة تركها المصطفى لا بد لمن أراد خلود الذكر واتباع الهدى أن ينتسب إلى مرابعها التي ضمت كل العلوم والأخلاق. إنه الذي أشار إليه المصطفى صلى الله عليه وآله حين سألته الزهراء عليها السلام عنه فقال: "أما ترضين أن أزوجك أقدم أمتي إسلاماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً" كما روى الإمام أحمد "أنا دار الحكمة وعلي بابها" كما في الترمذي.

سيدي ومولاي وقرة عيني... أبا الحسنين.. شهيد الفجر.. وضحية القدر. سلام الله عليك سيدي علياً يوم ولدت، وسلام عليك سيدي أبا الحسنين يوم إسلامك وسلام الله عليك ورضوانه ورحمته سيدي يوم جاهدت، ويوم ظلمت.. وسلام على جسدك الطاهر أيها الشهيد الحي في القلوب وعلى مدار نبضات الزمان وفي جنات الشهداء عند ربكم ترزقون، فرحين بما آتاهم الله، ومنيرين بدمائهم الزكية الطريق لمن بعدهم حينما يدافعون عن الحق ويدفعون الظلم والظالمين. كنت سيدي ولا زلت قدوة وأسوة.. لكل الأجيال. سلام الله على رسول الله الأمين وأنت تجلس معه في مقعد صدقه وعلى أسرته الطاهرين الطيبين رضوان الله على الأصحاب الطاهرين الميامين وعلى من سار على دروب الحب والوفاء لرسول الله واله.. إنه سميع مجيب.

سماحة الشيخ مرسل نصر رئيس المحكمة الإستئنافية الدرزية العليا في لبنان اعتبر أن أسباب محبة الإمام علي‏ عليه السلام لا تكفيه مقالة، ولا يحويه كتاب لأن ولي اللَّه يحوي من الأسرار ما تعجز عن معرفته عقول العامة ومن المعارف التي لا يعلمها إلا اللَّه والراسخون في العلم.

وأوجز أسباب محبته للإمام علي‏ عليه السلام بما يلي:
1) كونه أول من امن بالرسول واسلم، قال عليه السلام: "بعث رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الاثنين وأسلمت يوم الثلاثاء.."، وقال عليه السلام: "أنا أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله ".

2) كونه اعلم المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله وقد قال عليه السلام: "واللَّه ما نزلت آية وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت، وعلى من نزلت إن ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً ناطقاً سؤولاً". وعنه عليه السلام: "إن هاهنا لعلما جما - وأشار إلى صدره - ولكن طلابه يسير، وعن قليل يندمون لو فقدوني". وقال الرسول صلى الله عليه وآله: "أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن اراد العلم فليأت الباب"، وعنه صلى الله عليه وآله "اقضى امتي واعلم امتي بعدي علي".

3) لأنه وصي النبي إذ قال صلى الله عليه وآله: "إن وصيي وموضع سري وخير من اترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب". وقال صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي". وقد حث الرسول صلى الله عليه وآله على حب علي ‏عليه السلام إذ قال: "حب علي يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب". وعنه صلى الله عليه وآله: "عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب"، وقوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق".

4) ولأن محبة الإمام والاعتقاد بالإمامة فرض واجب، ومن يخرج عن ذلك لا يتم إسلامه. والإمامة سبيل الرب، والإمام علي من أحد الثقلين الذين ذكرهما الرسول صلى الله عليه وآله بقوله: "إني قد تركت فيكم الثقلين. ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي واحدهما اكبر من الآخر: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، ألا وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض". ولأن إمامة علي عليه السلام زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين. وقد جاء على لسان الرسول صلى الله عليه وآله: "اسمعوا وأطيعوا لمن ولاه اللَّه الأمر فانه نظام الإسلام".

5) ولأن الإمام علي تحلى بالعلم والحلم والزهد والقوة وهو يعسوب المؤمنين وخليفة الرسول رب العالمين. لم يحث على طاعة اللَّه إلا وكان أسبق الناس إليها، ولم ينه عن معصية إلا وكان اسبق الناس إلى التناهي عنها. وقد حارب أمله، وانتظر اجله، وجاهد نفسه، وكان صنواً للرسول والسابق إلى الإسلام، ومجاهد الكفار، وقامع الأضداد، وكان علم الهدى، وكهف التقى، ومحل السخاء، وبحر الندى، وطود النهى، وكان الهادي والمهتدي، وأبا اليتامى والمساكين، ومعيل الأرامل، وملجأ كل ضعيف، ومأمن كل خائف، لم يخرجه غضبه عن الحق ولم يدخله رضاه في الباطل، وكان عنده علم الأولين والآخرين فهو سيد الوصيين، ووصي سيد المرسلين، وكان الحجة العظمى والآية الكبرى. وعنه قال الرسول صلى الله عليه وآله: "من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، والى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه، والى يحيا بن زكريا في زهده والى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب". ولأن الإمام علي انعم اللَّه عليه بالشجاعة والإخلاص، فواسى النبي صلى الله عليه وآله بنفسه في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر عنها الأقدام لم يكذب ولم يُكذَّب، ولا ضل ولا أضل، وقد خاف صغيرا وجاهد كبيرا، وما لقي احد من الناس ما لاقى من الظلم، وقد قال عليه السلام: كنت أرى الوالي يظلم الرعية، فإذا الرعية تظلم الوالي، طالب بحق فحال البعض بينهما، وصغر البعض عظيم قدره. واجمعوا على منازعته في أمر هو له، وتواتر قوله عليه السلام: "ما زلت مظلوماً منذ قبض اللَّه رسوله حتى يوم الناس هذا". واللَّه نسأل أن يغفر تقصيرنا في محبة إمامنا العظيم، ويجعل قلوبنا مستنيرة بنوره ويهدينا بعلمه وحلمه، انه سميع مجيب.

حملنا السؤال إلى الكاتب والأديب المسيحي الأستاذ سليمان كتاني صاحب كتاب "الإمام علي عليه السلام نبراس ومتراس" لنرى ما في قلبه من أسرار دفعته لمحبة الإمام علي عليه السلام فقال:
أحب علياً لأنه تحفة من تحف الفكر، سبق أجياله بأجيال عديدة، وحدة فكرية ندر وجوده في حياة الإنسان، الإمام علي عليه السلام، شخصية مثلى لو يتقيَّد بها أي عصر من العصور لكان أنجح عصر من عصور الإنسان، أحب علياً لأنه علي بالمعنى المطلق للكلمة، وما وقفت على سيرة رجل وأعجبتني مثلما وقفت على سيرة الإمام علي عليه السلام فأعجبني وامتلكني من جميع قواي، علي عليه السلام وحدة زمنية إنسانية ندر وجوده في حياة الإنسان. من ذلك المعدن الطيب كفكفت شخصية الإمام مستكملة كل مقوماتها... شخصية برز العقل فيها السيد المطلق، فإذا هي منه كما هي الديمة من الغمام، تستمطره فينهمر بها انسجاماً بانسجام. وهكذا بسط عليها لواءه كما أسلمت له قيادها، فامتصته وامتصها، قوة بقوة، ولونا بلون.. حتى لكأن الهيكل المتين كحبيكة الفولاذ، ما استجمعت أوصاله إلا ليكون قاعدة جبارة لقائد جبار.. فإذا السيف في كفه وامض بكر، له حدان متساندان: حد على الترس وحد على القرطاس، في حلبة بيضاء ذات وجهين: وجه على الجهاد ووجه على السداد.. ازدواجية في البطولات، لملمها التوحيد فانساقت إلى المضمار كانسياق الجوارف تلاحمت إليها الجداول. وجداول من المواهب تلبست المزايا والصفات كما تتلبس الأفانين أوراق الربيع، وتضافرت في تساجمها وتناسقها كحبال الشمس، وحدها المصدر، وكالمصهر، تتذاوب فيه المعادن. هكذا انصهرت في هذه الشخصية مجموعة المواهب ومجموعة الصفات ومجموعة المزايا، قيمة بقيمة، ووزنا بوزن، ومقدارا بمقدار.. فإذا هي يتزاوج بعضها من بعض كما تتزاوج الألوان في لوحة رسام.. وإذا المعطيات كالفيض، تجري كأنها في سباق، وتتساند كأنها أنداد.

فالعفة والصدق ريشتان ناعمتان كان لهما من القوة لديه ما كان لهما منها في زنديه: الترس والفرند. والزهد والجود.. جناحان رهيفان أفاء عليهما من ظله، فإذا هما بعين المدى يتباعدان ثم لديه يلتقيان.. فإذا الزهد في الدنيا جود بها، وإذا الجود بالزهد اكتماله. والتقوى والإيمان شعوران صميميان ومنبعان صافيان، غارا في جنانه واندفقا على لسانه، فإذا هما به على نصب الكعبة حسام، ومن ورعه قبلة للإسلام. والحق والعدالة صفتان متلازمتان، وقلادتان فريدتان، وحجتان لامعتان.. وشم بهما وجدانه، وحلى بهما بيانه، وسن عليهما سنانه. فإذا القيم بين الحق والعدل تتلمس في معتقده تراثها. والحب والإخلاص حبلان وثيقان ودفقتان سخيتان، ترابط بهما فؤاده ولسانه.. فإذا الأرض، بجماعاتها، تنشد الدف‏ء لتمرع. والحزم والعزم نتيجتان منبثقتان من صلابتين متكاتفتين: القوة والإرادة. كان لهما من عينيه انعكاس على ساعديه وثورة في منهجيه، فإذا الدين والدنيا في ناظريه قالبان يستكملان وحدة الوجود من حديه من كل تلك المقادير. مواهب وصفات شرّبت شخصية علي بن أبي طالب، فإذا هي في وجود الإنسان دعامة تتثبت بها قيمة الإنسان.

قلةٌ أولئك الرجال الذين هم على نسج علي بن أبي طالب.. تنهد بهم الحياة، موزعين على مفارق الأجيال كالمصابيح، تمتص حشاشاتها لتفنيها هديا على مسالك العابرين. وهم، على قلتهم، كالأعمدة، تنفرج فيما بينها فسحات الهياكل، وترسو على كواهلها أثقال المداميد؛ لتومض من فوق مشارفها قبب المنائر. وإنهم في كل ذلك كالرواسي، تتقبل هوج الأعاصير وزمجرة السحب لتعكسها من مصافيها على السفوح خيرات رقيقة رفيقة عذبة المدافق.
هؤلاء هم في كل آن وزمان، في دنيا الإنسان، أقطابه ورواده. إنهم في حقول البحث والتنقيب مرامي حدوده، وفي كل خط ضارب في مهمة الوجود أقاصي مجالاته. وإنهم له على كل المفارق إشارات ترد سبله عن جوامحها، وفي كل تيهٍ ضوابط تلملم عن الشطط شوارده. وهم له في دجية الليل قبلة من فجر، وفوق كلاحة الرمس لملمة من عزاء. من بين هؤلاء القلة يبرز وجه علي بن أبي طالب في هالة من رسالة وفي ظل من نبوة، فاضتا عليه انسجاما واكتمالا كما احتواهما لونا وإطاراً. وهكذا توفرت السانحة لتخلق في أكلح ليل طالت دجيته على عصر من عصور الإنسان فيه من الجهل والظلم والحيف ما يصم ويذل.. رجلا تزاخرت فيه وفرة كريمة من المواهب والمزايا، لا يمكن أن يستوعبها إنسان دون أن تقذف به إلى مصاف العباقرة.

الدكتور إبراهيم بيضون أستاذ التاريخ الإسلامي في الجامعة اللبنانية هل استطاع أن ينظر إلى شخصية الإمام علي عليه السلام كمؤرّخ يُفترض به التجرد عن مشاعره خلال دراسته ونظرته إلى أي شخصية تاريخية؟ هذا مما تحدث به خلال إجابته على سؤالنا لماذا تحب علياً عليه السلام؟

من المألوف لدى المؤرخ أنه يمارس النقد على النّص، في محاولته الاقتراب من الحقيقة، مترادفةً مع العقل الذي يشكّل المرجعية بعد النّص في هذه المسألة. لذلك لن يكون العنوان المطروح لماذا أحبّ الإمام علي في منأى عن هذا النقد، بل أجده أكثر قابلية له عندما يُوجّه إلى المؤرخ، المتجرّد من مشاعره، خصوصاً أمام المساءلات على اختلافها، ومثل هذا السؤال المطروح يدخل في نبض المشاعر، والجواب عليه يأخذ مداه في الصخب الوجدي للكاتب المنبهر بالموقف، بالكلمة، بالبلاغة، بالحكمة، بالمعاناة لإمام زمانه وكل الأزمنة. إنه سؤال خليقٌ بأن يفيح الشاعر في مجاله، فيعطي لقلمه العنان، مبحراً في الدور والتراث و"النهج" للإمام العظيم. أما المؤرخ فله طريق آخر، وله منهاجه والياته الخاصة، وبالتالي محصلاته المبنية على المعطيات، والنتائج الموضوعية. ولكن المؤرخ الذي من شأنه إثارة الإشكالية، قد يصعب عليه الامتثال لمقولة "الريحاني"، بأن يكون "شاهداً لا قلب له"، متحدّثاً بالشروط عينها عن شخصيةٍ عملاقة مثل الإمام علي، كما يتحدث عن شخصية عادية في التاريخ. فذلك ما لا يستطيع مؤرخ مهما بلغ به التجرّد، أن يقع فيه، أي الانفصال المطلق عن المشاعر التي تدفع به، ربما رغماً عنه، إلى الانحياز لشخصيته. ولو أخذتُ بناصية "العنوان" مؤرخاً، لما تبدلت النتائج على هذه المساحة، لأنه الإمام، تكتشف عظمته كلما أبحرت في نصوصه، أو في روايات الآخرين عنه. فهو إذاً يقدّم نفسه تلقائياً، ولا يحتاج إلى إضافات أو تدخُّلات لمصلحته من أقلام المبالغين في حبّه، أو المُظهرين ذلك، مما قد يعكس ضرراً عليه وتشويهاً لصورته المتألقة في التاريخ الإنساني.

هذا الصبي الذي نشأ في الإسلام، و"الفتى" الذي اكسب المفردة الأخيرة مفهوم الشجاعة والتضحية والكبرياء، والشاب الذي تلقى العلم من الينابيع، فكان المرجعية بعد الرسول، والمدرسة التي يفزعون إليها كلما التبس عليهم أمر، والرجل الحكيم المثقل بالهواجس الصعبة، وصاحب الدور الذي تآمروا عليه لشدة الحق في خطابه، فاستبعدوه عمداً عن الخلافة، حتى إذا انهارت الأخيرة لم يجرؤ أحد غيره على ركوب الخطر. فكان الدور - الثورة الذي تشبث به، وليست السلطة ما كانت تعنيه، ودائماً من أجل أن يبقى الإسلام، أو تبقى النخبة التي تترّسخ في وعيها رسالتُه في مواجهة الانحراف والطغيان. يقول الإمام في هذا السياق: "ما زلتُ أطمع أن تلحق بي طائفةٌ، فتهتدي بي، وتدنو إلى ضوئي، فذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تنوء بآثامها". ولأن العلم ما اختزنه الإمام في عقله، كان له "نهجه" الذي تصّدت له القوى النافذة على الأرض، فوقّعه بقلمه مشروعاً للمستقبل، مجللاً بالبلاغة وأصدق القول.. فذهب المتكلئون والناكثون والقاسطون، وطواهم النسيان، و"النهج" ما برح الضوء الذي يُهتدى به، والنظرية المؤسّسة على العلم النوراني، والثورة - الرسالة من أجل أن يسود في العالم العدل، والحوار يأخذ مداه على مساحة الإنسان. قال الإمام مخاطباً أحد المقرّبين منه: "يا كميل ابن زياد هلك خُزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر".. وكُميل الذي كان في طليعة "القرّاء" ممن شاركوا في ثورة ابن الأشعث، وقضى إعداماً بسيف الحجاج، درج في هذا الطريق، وأخذ علمه عن الإمام، هذا الذي جسّده في "دعائه" الشهير.

كان "كميل" من أولئك النخبة التي دخل الإسلام في عقلها، ولم تأخذها المصالح والغرائز إليه... وهي النخبة التي راكمت نهجاً سياسياً وفكروياً مع الإمام الحسن والأئمة من بعده، والبقية من المخلصين الذين قاوموا ليبقى الإسلام الجذري وأبوا السير في طريق الانحراف. والإمام علي مؤسس هذه النخبة التي من دونها كان الإسلام قد تحول إلى مجرّد شعارات ترّوج للسلطة المنحرفة. لقد انتصرت العصبيات على العلم في مجتمع كانت ما تزال الأولى متّجذرة فيه، ولكن العلم هو العقل، والإسلام لم يسلك طريقاً آخر غير العقل، وبالتالي فإنه في صموده وقدرته على الاستنهاض والتجديد، إنما كان لهذا العلم، وهذا العقل. وبالفعل نقرأ الإمام علياً كما هو، بريادته، وجهاده، ودوره، ونهجه، والثائر الأنموذج على الظلم. وليس لك في النتيجة سوى أن تنحاز بعقلك أيضاً إليه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع