الشيخ إسماعيل حريري (*)
قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم
مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).
وقال تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159).
وقال أيضاً:
﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ
شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ
بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ
يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ (النساء: 36).
*لياقات اجتماعيّة مهمّة
من نِعَم الله تعالى على خلْقه من البشر أن منحهم عقلاً وميّزهم به عن سائر
مخلوقاته, باستثناء الملائكة, كما ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"إنّ الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوةً بلا عقل، وركّب
في بني آدم كلتيْهما، فمن غلب عقلُه شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته
عقله فهو شرّ من البهائم"(1).
والإنسان الممدوح هو الذي يغلب عقله شهوته، والمذموم عكسه. وبمقتضى هذا العقل،
يفرّق الإنسان بين الأشياء حَسَنِها وقبيحها، ولا سيّما ما يرتبط منها بالعادات
واللياقات المعمول بها في المجتمعات كافّة إلّا ما شذّ لتأثّرات سلبيّة أدّت به إلى
الخروج -في ذلك- عن جادّة العقل والعقلاء.
وعلى هذا الأساس العقليّ والعقلائيّ تفشّت عادات اجتماعيّة ممدوحة صار يُعبّر عنها
باللياقات الاجتماعيّة، كونها تلقى قبولاً رائجاً وحَسَناً بين أفراد المجتمع،
فنراهم يحثّون بعضهم بعضاً عليها، ويتسابقون إلى الإتيان بها جهاراً، مفتخرين بذلك
لأنّها معدودة عندهم من الآداب الحَسَنة والأخلاق المحمودة، بل يلومون ويعاتبون من
يتركها، ولا يتردّدون في ذمّ من يتخلّف عنها.
ومن هذه اللياقات: صلة الأرحام، برّ الوالدين، حسن الجوار، عيادة المريض، المشاركة
في الأفراح، المواساة في الأحزان والمصائب، خدمة الناس وغيرها.
فإنّ كلّ عاقل يراها حسنة ممدوحة، وسواء قام بها أو لا، فلا يمكنه إلّا أن يقرّ
بصوابيتها وحسنها ورجحانها بنظره كإنسان مجبول، مفطور على حبّ كلّ حسن جميل، وبغض
كلّ قبيح.
*الدين يدعو إلى هذه اللياقات
الإسلام دين اللياقات، وهو الدين الذي يدعو أكثر من أيّ شيء آخر، بعد الإيمان بالله
ورسوله والأئمّة الأطهار عليهم السلام، إلى تعميق الروابط الاجتماعّية، وإلى عناية
الإنسان بعلاقاته الاجتماعيّة عناية شديدة لأنّ ذلك يكفل للمجتمع تآلفه وتكاتفه
فتعمّ المحبّة في أوساطه كافّة. وقد غرس دوحة جذورها العلم والمعرفة، وجذعها
الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، وفروعها الملَكات الحميدة والأخلاق الفاضلة، وأزهارها
التقوى والورع، وثمارها الأقوال المُحكمة والأفعال المحمودة، قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ
الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم: 24-25).
*الدعوة في الكتاب العزيز
آيات كثيرة تدعو إلى التعارف والتآلف لتشييد وتشديد الروابط الاجتماعيّة عبر ما
سُمّيَ باللياقات الاجتماعية، ومن هذه الآيات: الآيات الثلاث المذكورة في صدر
المقالة.
فقد دعت الآية الأولى إلى تعارف الناس للتآلف بينهم. ولا شكّ في أنّ
اللياقات الاجتماعية توجِد هذا التآلف المطلوب، بل يصل الحكم في بعضها إلى حرمة
الإخلال بها كصلة الرحم وبرّ الوالدين.
والآية الثانية، تبيّن خُلُقاً من أخلاق رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وهو اللين في المعاملة بعيداً عن غلاظة القلب وفظاظة السلوك. وهذا كان
طبعه صلى الله عليه وآله وسلم بما حباه الله من مكارم الأخلاق وعلوّ الفضائل وحلو
الشمائل.
وأمّا الآية الثالثة، فقد ذكرت جملة من أهمّ الأمور في حياة
الإنسان عقائديّاً وسلوكيّاً وهي: توحيد الله في العبادة، الإحسان إلى الوالدين وذي
القربى، الجار القريب في النسب، الجار بالجنب - وهو الجار الأجنبي الذي ليس بينك
وبينه قرابة-، الصاحب بالجنب -قيل: هو الرفيق في السفر، والإحسان إليه بالمواساة
وحسن العشرة، وقيل: الزوجة، وقيل: المنقطع إليك يرجو نفْعك، وقيل: الخادم الذي
يخدمك-، والأَولى حملُهُ على الجميع(2).
ومن الآيات أيضاً قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ *
وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ
وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا
صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد: 21-24).
وقد ذكر فيها: صلة الرحم، الإنفاق من أموالهم سرّاً وعلانية - وهي صدقة السرّ
والعلن -، ودرء السيّئة بالحسنة، أي من أساء إليهم فإنّهم يدفعون إساءته بالإحسان
إليه.
وهذه الثلاثة هي من صلب اللياقات الاجتماعيّة التي دعا الله تعالى إليها في كتابه،
بل ورغّب بها.
*الدعوة في الروايات الشريفة
فما ورد من الروايات في حقّ اللياقات والآداب الاجتماعيّة أكثر بكثير ممّا ورد
في الكتاب العزيز منها:
1- ما روي في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه "سئل عن قول الله جلّ ذكره:
﴿وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ
بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1) فقال عليه السلام: هي أرحام الناس، إنّ الله
عزَّ وجلّ أمَر بِصِلَتها وعظّمها، ألا ترى أنه جعلها منه"(3)؟
2- وروي عنه عليه السلام: "إنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:
يا رسول الله أوصني، فقال: لا تشرك بالله شيئاً وإن حرّقت بالنار وعُذّبت إلّا
وقلبك مطمئنّ بالإيمان، ووالديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين، وإنْ أمراك
أن تخرج من أهلك ومالك فافعل فإنّ ذلك من الإيمان"(4).
3- وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام: "وأمّا حقّ جارك فحفظه
غائباً وإكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوماً، ولا تتبع له عورة، فإن علِمت عليه
سوءاً سترته عليه، وإن علِمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا تسلّمه
عند شديدة، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرة كريمة"(5).
4- وفي وصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أوصاني ربّي بالجار حتّى ظننت
أنّه يورثه"(6).
*الترغيب في الآداب والأخلاق المحمودة
اللافت في الروايات الشريفة أنّها لم تقتصر على الحثّ على الإتيان بهذه الآداب
واللياقات الأخلاقيّة والاجتماعيّة، بل رغّبت فيها من خلال ما ذكرته من آثار لمصلحة
فاعلها في الدنيا والآخرة، كما خوّفت من تركها وإهمالها، لما يترتّب على ذلك من
آثار تضرّ بالتارك.
1- في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "صلة الرحم وحسن الجوار يعمران
الديار ويزيدان في الأعمار"(7).
وكذلك ورد في البرّ وحسن الخُلُق(8).
وكلٌّ من إعمار الديار وزيادة الأعمار والبرّ وحسن الخُلق من المنافع، والمصالح
الدنيويّة التي يرغب فيها كلّ إنسان.
2- عن الإمام الباقر عليه السلام: "قال أبو ذر (رض): سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: حافّتا الصراط يوم القيامة: الرحم والأمانة، فإذا مرّ الوصول
للرحم، المؤدّي للأمانة نفذ إلى الجنّة وإذا مرّ الخائن للأمانة، القطوع للرحم لم
ينفعه معهما عمل وتكفأ به الصراط في النار"(9).
والجنّة من ثمار الآخرة النافعة للإنسان، وهي تترتّب على وصل الرحم وأداء الأمانة،
وبهما يجوز على الصراط يوم القيامة.
3- وعنه عليه السلام: "ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه حيّين وميّتين؟ يصلّي
عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحجّ عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك
فيزيده الله عزَّ وجلّ ببرّه وصلته خيراً كثيراً"(10).
فالخير الكثير الذي يصيب البارّ بوالديه يكون في الدنيا نفعاً كثيراً آتاه الله
إيّاه جزاء برّه بوالديه ولو بعد موتهما بصلاة وصوم وحجّ عنهما. وهذا ترغيب لمن لم
يكن بارّاً بهما حيّين فيبرّ بهما بعد موتهما.
*التخويف من ترك الآداب واللياقات المذكورة
ذلك أن الله تعالى يريد للإنسان أن يجتهد في إتيان هذه الآداب واللياقات وعدم تركها
أو الإخلال بها بنحوٍ يخلّ بالروابط الاجتماعيّة بين الأفراد والجماعات، والتخويف
لجهة الارتدادات السلبيّة التي تحصل نتيجة الإخلال المذكور في الدنيا والآخرة:
1- قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ
مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (الرعد: 25). وقال عزّ وجلّ:
﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن
بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ
فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (البقرة: 27).
2- عن الإمام الصادق عليه السلام: "أوّل ناطق من الجوارح يوم القيامة الرحم،
تقول: يا ربّ من وصلني في الدنيا فصِل اليوم ما بينك وبينه، ومن قطعني في الدنيا
فاقطع اليوم ما بينك وبينه"(11).
ولا مجال للإطالة في عرض الروايات وهي كثيرة جداً، إلّا أنّه قد اتّضح ممّا ذكرناه
أهميّة الالتزام بلياقاتٍ أسَّسَ لها الدين الإلهيّ وخصوصاً الدين الإسلامي، ودعا
إليها محافظة على الروابط والعلاقات الاجتماعيّة بين الناس جميعاً بعد دعوة الله
تعالى لهم للتعارف والتآلف والتكاتف فيما بينهم.
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية - فرع لبنان
1- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحرّ العاملي، ج15، باب وجوب غلبة العقل على الشهوة،
ح2.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج3، ص83.
3- الكافي، الكليني، ج2، ص150.
4- ن.م، ص157.
5- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج2، ح3214.
6- بحار الأنوار، المجلسي، ج64، ص340.
7- الكافي، م.س، ص152، ح14.
8- م.ن، ص110، ح8.
9- م.ن، ص152، ح11.
10- م.ن، ص159، ح7.
11- الكافي، ج2، ص151.