إعداد: حوراء حمدان
"إنّ الأعمال النابعة من الإيمان كالبنيان الذي يبقى صامداً دون أن يُرى، وكذا المقاومة تبقى كقطرات الدم الجارية في العروق". هكذا وصف السّيد القائد الخامنئيّ رواية "القدم التي بقيت هناك"، فهي "رواية استثنائيّة لحوادث مؤلمة تظهر مدى صبر وصمود وشهامة شبابنا المجاهد"(1). وما بنيانُها الصلب هذا إلّا قوّة في القلب، "وأصل قوّة القلب التوكّل على الله"(2) كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام.
*مذكّرات يوميّة
"القدم التي بقيت هناك" رواية للسيّد ناصر حسيني بور، أسير إيرانيّ وقع في قبضة القوات العراقيّة البعثيّة بعد إصابته في قدمه أثناء الحرب. يكتب فيها مذكّرات يوميّة للأحداث التي حصلت قبل وقوعه في الأسر وبعده، ويعبّر عن كلّ ما اختلج في صدره وقتها. كان الأسير يسجّل مذكّراته أيام الأسر على قصاصات ورقيّة ويخفيها في ماسورة عُكّازه، ثمّ هرّبها داخل ضمّادات قدمه المجروحة.
يضمّ الكتاب خمسة عشر فصلاً بالإضافة إلى ملحق للهوامش والصور والوثائق، ترجمه إلى العربيّة مركز نون للترجمة والتأليف وأصدرته جمعيّة المعارف الإسلاميّة. وفيما يلي لمحة موجزة عن أيام الصبر والجهاد، والتي استهلّ الكاتب روايته عنها بقوله: "وما رأيتُ إلّا جميلاً".
*الحرب والوقوع في الأسر
يروي السيّد ناصر في الفصل الأول تفاصيل المعركة التي وقعت في جزيرة "مجنون" إبان الحرب العراقيّة الإيرانية بتاريخ 25 حزيران 1988م. كان ناصر، ذو السادسة عشر عاماً، راصداً في وحدة الاستطلاع يرصد خطوط العدو، وتحرّكاته وردّات فعله. وقد كانت كل الأدلّة تنبئ بوقوع هجوم قريب.
الساعة الثالثة والربع فجراً، أضاءت انفجارات سماء الجزيرة، وبدأ الهجوم. هذا الهجوم دام لساعات... في نهاية المعركة، وقع ناصر أسيراً بعد أن أصابته إحدى الشّظايا في فخذه اليسرى وإحدى الرصاصات رسَغَ قدمه اليمنى. الأسر كان هاجس ناصر الأكبر، كان ذنباً بالنسبة إليه "وها هو قد ارتكب هذا الذنب"(3).
*رحلة الخروج من الجزيرة إلى السجن
كان من بين الأسرى ستّة جرحى. تلك الجراح لم تمنع القوات العراقيّة البعثيّة من التنكيل بهم. فكانوا يأمرونهم بشتم الإمام الخمينيّ ويمنعونهم من تأدية الصلاة، كما سلبوا جثث الشهداء وحرقوها.
لم ينسَ السيد ناصر في خضم روايته لحادثة الأسر أن يتذكّر أولئك الذين تعاطفوا معهم كالضابط العراقيّ الذي يحبّ الإمام الخمينيّ، وذاك الذي أقسم عليه بأبي الفضل وساعده ودعا له في المقابل. إلّا أنّ الألم كان يعتصره حينما يذكر "مجاهدي خلق" الذين باعوا بلادهم. كان الخروج من الجزيرة محنة بالنسبة إليه، وكاد الموت يريحه من عذابه أكثر من مرّة لولا الإرادة الإلهية.
بعد خروجهم من الجزيرة، توجّهوا إلى الميمونة حيث تمّ التحقيق معهم في غرفة الحرب. في التحقيق، كان البعض ينهار على أثر التعذيب والتنكيل، وكان بعضهم سلاحُه لسانَه ومواقف كربلاء الأبيّة تتجلّى في النفوس. كان العراقيون (البعثيّون) يملكون معلومات كثيرة عن القادة الإيرانيين. شعر ناصر بالفخر والعزّة لأنّ أعداءه يعرفون شجاعة قادتهم وقتالهم في الصفوف الأماميّة.
*سجن الرشيد
بعد التحقيق، نقل العراقيون (البعثيّون) الأسرى إلى سجن الرشيد في بغداد. في الطريق إلى السجن، كانوا يقتربون من كربلاء، ما أثار فيهم الحزن وأجهش الجميع بالبكاء.
هذا السجن ليس إلّا محطة للأسر قبل نقلهم إلى المخيّمات، وفيها يُستكمل التحقيق وتصفية الحسابات. كانت كلّ زنزانة لا تتعدّى مساحتها 22 متراً مربّعاً، يضعون فيها 50 شخصاً دون مراعاة ظروف الجرحى الصحيّة.
في التحقيق، كان هاجس العراقيين (البعثيّين) البحث عن القادة وكانت معظم إجابات الأسرى مبهمة.
الممرّض الخاصّ بناصر، العمّ حسن، الأسير الأكبر سنّاً في المجموعة، كان يوصيهم بالتوسّل بالإمام السجّاد عليه السلام. ويقول لهم: "لا تشكُ الألم في طريق الطلب فلا وصول لمن لا يعاني"(4).
كان الوضع الصحيّ للأسرى الجرحى يزداد سوءاً فتوفّي عدد منهم. أما ناصر ففقد الإحساس بقدمه وباتت رائحتها لا تحتمل، ما اضطرّ العراقيين (البعثيّين) لنقله ورفاقه الجرحى إلى المستشفى. كان خروجه من سجن الرشيد أفضل أيّام حياته على الرغم من أنّ قدمه ستُبتر.
*تجربة المستشفى والعودة إلى السجن
"القدم التي تحمّلتني كل هذه السنوات لم أعد قادراً على تحمّلها"(5). ها هو ناصر يرتاح من آلامه فقد بتروا قدمه، القدم التي بقيت هناك ظلّ يشعر بها لفترة طويلة.
لم يكن التعامل في المستشفى مع الجرحى بأفضل من الحال في السجن. هناك، واجه ناصر اختباراً صعباً، فقد كان باستطاعته العودة إلى وطنه بشرط أن يظهر الندم ويقول ما يريدون. إلّا أنّ حريّته لم تكن أغلى عليه من الصدق ولا أغلى من كرامة بلاده.
عادوا به إلى السجن، وسجنوه في السجن الانفراديّ وعادوا للتحقيق معه.
*مخيَّم تكريت
مخيَّم تكريت معسكر يضمّ معتقل الأسرى "مفقودي الأثر". كانت قوانين المخيَّم صعبة، ممنوع التجمّع أو إقامة البرامج الدينية، حتّى الوقت المخصّص لقضاء الحاجة له قوانينه الخاصّة. وناصر، الذي رافقه ذلك الحارس اللّئيم وليد، كان ينال نصيبه من التعذيب والآلام.
في المخيم، حاولت منظّمة "مجاهدي خلق"(6) المنافقين استمالة الأسرى (خصَّص صدام لهذه المنظّمة مساعدات وإمدادات). خلال وجودهم في مخيَّم تكريت، رحل الإمام روح الله إلى الملكوت الأعلى. كان رحيله صعباً على الأسرى، فكلّ واحد منهم انتحب بطريقته، حتّى أنّ بعض الحراس العراقيين (البعثيّين) بكوا الإمام. ورغم الحزن إلّا أنّ خبر انتخاب الإمام القائد الخامنئيّ جاء كبلسم لقلوبهم الموجوعة.
*الحرية والولادة الجديدة
صدر القرار بتبادل الأسرى وخضع النظام البعثيّ للمطالب، ولم يعد مسموحاً استخدام السياط وطُلب منهم أن لا يذكروا ما حدث في معسكرات الاعتقال. طلب أغلب الحرّاس من الأسرى مسامحتهم، إلّا ذلك الحارس الذي أذاق ناصر الويلات.
قبل أن يستقلّوا الطائرة، تكلّم العقيد العراقي (البعثي) مع الأسرى وأعطاهم استمارة اللّجوء. إلّا أنّ أيّاً من الأسرى لم يكترث للأمر. كان الوطن يناديهم والشوق إليه يحرّكهم، فلم يكن ليصدّقوا أنهم سيدوسون تراب الوطن من جديد إلّا عندما حطّت الطائرة على أرض إيران. فكيف كان لقاء ناصر الجريح مع أهله؟ وكيف كانت ولادته الجديدة؟
*بين الموضوعية والواقع
ليس أمراً سهلاً أن تدوِّن أحداثاً أليمة تمُسُّك في الصميم وأن تبقى في الوقت عينه متوازناً في السرد.
يبوح النص الأدبيّ في رواية "القدم التي بقيت هناك" بالعديد من الحقائق الإنسانية والمشاهد السلبيّة والإيجايبة للعلاقة التي قامت بين الكاتب والآخر (العدوّ). فعلى الرغم من أنّ الأحداث هي أحداثٌ واقعيّة وشخصيّة إلّا أنك تراه موضوعيّاً حينما يتحدّث عن الآخر. فهو قد أقام صداقة مثلاً مع الحارس العراقيّ سامي، يقول ناصر: "كان بعض رفاقي ينصحونني بأن لا أضع كلّ ثقتي به، فبالنهاية هو عراقيّ، لكنّي كنت أحبُّه"(7).
1.القدم التي بقيت هناك، ناصر حسيني بور، ترجمة: مركز نون للتأليف والترجمة، ط1، جمعيّة المعارف الإسلاميّة 2013، ص5.
2.غرر الحكم، الحديث 3082.
3.القدم التي بقيت هناك، م.س، ص66.
4.م.ن، ص211.
5.م.ن، ص259.
6.منظمة إيرانية معادية لنظام الجمهورية الإسلامية.
7.م.ن، ص556.