الشيخ كاظم ياسين
إن هذه القصة التي بين يديك - قارئي الكريم - ليست قصة خيالية نسجها كاتب وحلّق في أجوائها أديب، وإنما هي واحدة من القصص التي صنعتها المقاومة الإسلامية المظفرة في لبنان. وقد أحسن فضيلة الشيخ كاظم ياسين صياغتها في كتاب له "قصص الأحرار".
ذئب، بالفصحى، وديب، العامية. وكثير من الناس لا ينتبهون إلى الاتحاد في المعنى بين اللفظتين، ولكن غالباً ما يكون "ديب" اسماً لإنسان لطيف ولا يخبّىء شراً لأحد ولا يوجد بينه وبين الذئب أي اشتراك إلا في الحيوانية الفلسفية.
غير أن المجير ديب، ضابط المخابرات اليهودي، والذي عرف اسمه أهالي جبل عامل من ساهم في أعمال المقاومة منهم ومن لم يساهم... كان ذئباً بكل ما في الكلمة من وحشية وأنياب وعيون حمراء كالجمر ولعاب يسيل منه حينما يتكلم ويثير التقزز.
كان الميجر، ديب، ضابط التحقيق واستخراج المعلومات من صدور المعتقلين في مراكز المخابرات التي افتتحها العدو اليهودي الهمجي حينما اجتاح بلادنا الوادعة سنة 1982، وكان عمله يتركز في معتقلات صور وصيدا، والنبطية، حتى عرفه مجاهدو جبل عامل، قاتلاً، سفاكاً للدماء، سفاحاً فقد كان يهودياً نموذجياً... ولطالما قتل بين يديه تحت التعذيب الكثير من الموقوفين سواء كان لهم علاقة بالمقاومة أم لا، إلى الدرجة التي غدا اسمه يبث الرعب في أوساط المعتقلين والموقوفين وكان الصمود في التحقيق الذي يجريه وتحت أبشع وأقذر عمليات التعذيب يعد من مآثر بطولات رجال المقاومة في جبل عامل.
ولم يكن الشهيد مروان كسرواني (ربيع) ينتظر ما سوف يحصل ذلك النهار من اللقاء التاريخي الحاسم بينه وبين الميجر ديب، لقد كان يعرفه تمام المعرفة ويحتمل وقوعه بين يديه في كل عمل يقوم به ويمكن أن يتعرض فيه للأسر ولكنه كان يتمنى أيضاً أن يكون اللقاء متوازناً، لقاء حرب ومبارزة، حتى يكتشف الميجر ديب أنه مجرد ذئب خال من أي صفة من صفات الإنسانية كالشجاعة على الأقل، وان البطولة والرجولة ليست في التسلط على إنسان اعزل ضعيف مكبل بالقيود وممارسة أبشع صنوف التعذيب عليه وهو لا يملك حولاً ولا قوة... بل هي وقفة في معركة وفي ساعة صبر..
على الطريق الممتدة صعوداً من مغدوشة إلى عنقون والمسماة طريق عرنابا كانت تحث السير سيارة عسكرية صهيونية سرعان ما اضطرت إلى الإبطاء عند المنعطف... عندها انهمر عليها سيل من النيران والقنابل اليدوية.. وقد كان سير المعركة وتمكّن المجاهدين من السيطرة التامة عليها دافعاً إلى الاطمئنان بانتهاء العمل وتدمير العدو... لذلك وما إن تمت إصابة السيارة وقتل ورجح من فيها حتى بادر أفراد مجموعة المقاومة إلى الانسحاب الفوري من المكان وقد كانت سمة تميز علميات المقاومة آنذاك وهي الضرب ثم الانسحاب الفوري.
وفعلاً فقد اخذ أفراد المجموعة يبتعدون بين الأشجار وخلف الصخور.
إلا أن الشهيد ربيع (مروان كسرواني) لاحظ أمراً لافتاً في أفراد الدورية الصهيونية وهي أن أحدهم ما زال حياً. وانه بالضبط الميجر ديب لقد نجا من الرمايات الأولى ومن القنابل اليدوية بأن ألقى بنفسه بسرعة خارجة السيارة... ولكنه حينما لاحظ أن رجال المقاومة انسحبوا نهض واقفاً... فوجئ بالشهيد ربيع (مروان كسرواني) وهو واقف من مكانه يراقبه.
والتقت النظرتان تحمل كل منهما كامل ما في داخل صاحبها من دين وقيم وأفكار، مسلم ويهودي، مظلوم وظالم، معتدى عليه ومعتد، ملاك وشيطان... طاهر ونجس، ومرّت لحظات من الصمت وهما يحدقان في بعضهما... وكان يفصل بينهما أمتار.
وهنا أخذ الميجر ديب يمارس ما انغرز في رأسه من أوهام التجبر والتكبر والعنجهية والتفوق وأسطورة الجيش الذي لا يقهر فخطا تجاه الشهيد خطوات بهدوء وكأنه يريد أن "يسبعه" كما يسبع الضبع ضحيته ثم يأكلها وهي تنظر إليه.
لقد كان يعتقد أن رجال المقاومة حينما يضربون ويهربون يمارسون صنفاً من اصناف الجبن والخوف على النفس ولم يكن يعلم أن هذا تكتيكاً لكي يستطيعوا الضرب آلاف المرات الأخرى... فتوهم ان الشهيد مروان قد اذهل به وبقوة شخصيته التي رجبها في أقبية التعذيب.
بينما كان الشهيد لا يكاد يصدق عينه: الميجر ديب بلحمه وعظمه هنا أمامي، سفاح معتقلات صور وصيدا والنبطية؟ وتتابعت الذكريات امام عينه وتتالت صور الشهداء الذين سقطوا تحت وطأة التعذيب وصور المعتقلين في زنازين الاحتلال ومعسكرات الاعتقال.
كيف يمكن ان يقتل هذا الذئب قتلة لا تنسى؟
وتراخت أصابعه عن العتلة، وسمع، من شدة الصمت، صوت طارق الصاعق... ورماها بهدوء بين قدمي الميجر الذي مزقه الانفجار وسقط صريعاً، ذئباً، على طريق عرنابا، وسجلها الشهيد مروان كسرواني (ربيع) لنفسه وبقي له حق الحصر إلى الأبد: لقد صفى مجرم المخابرات وسفاح أقبية التعذيب، والمسؤول عن عشرات عمليات التصفية والقتل: الميجر ديب...