تحقيق: أروى الجمّال
"أقوى جيوش العالم تُحطّم عند أقدام مجاهدينا في بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب... نخبة الجيش الإسرائيليّ ما بين قتيل وجريح ومريض نفسيّاً، ويمكنكم أن تشاهدوا بعض الصور... لماذا كان بعض الجنود يُنقَلون على حمّالات وهم نائمون على بطونهم؟ لأنّ الإصابات كانت في ظهورهم!".
من كلام سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
خلال حرب تمّوز 2006م.
وتعود ذكرى الانتصار حاملة معها حكايات البطولات التي سطّرتها المقاومة لتنسج فصلاً جديداً من النصر في تاريخ العدوّ الإسرائيليّ، وقد ذكّرته بأنّ أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" أصبحت سمفونيّة العزّ، عزف المجاهدون على أوتارها صولات وجولات من الهزائم.
التقيناهم بعد أكثر من أربعة عشر عاماً، ولم ينسوا أبداً تلك اللحظات المباركة التي توّجت بالنصر. أردنا إعادة استحضار تلك المشاهد، فكانت جولتنا من عيتا الشعب، إلى بنت جبيل، فالغندوريّة تاج الانتصارات والكلمة الفصل لنهاية حرب تمّوز 2006م.
•عيتا الأبيّة
البداية كانت في عيتا الشعب، وعلى بُعد أمتار من الحدود الفلسطينيّة، التقينا الحاجّ أبو حسن، القياديّ الميدانيّ في المقاومة في تلك المعارك، وبدأ بسرد حكاية من حكايا عيتا:
"نحن بقينا في البلدة طيلة أيّام الحرب. لم نكن وحدنا، فقد رفضت العديد من النساء مغادرة البلدة، وفضّلن البقاء لتأمين الطعام للمجاهدين، فكنّا نؤمّن لهنّ الطحين، ليخبزن على نار الحطب.
عانى جنود العدوّ الإسرائيليّ من حالة تشتّت وضياع، وانعدام كامل للتوازن، حيث كانت كلّ محاولاتهم للتقدّم إلى البلدة تبوء بالفشل، فزجّت قيادتهم بالمزيد من الجنود، وعملت على تطويق عيتا الشعب من كلّ النواحي ظنّاً منها أنّ ذلك يسمح لها بالإطباق على البلدة والقضاء على المقاومين. ولكن، مجدّداً، كانت المقاومة لهم بالمرصاد، فأوقعت نحو ثلاثين قتيلاً في صفوفهم وأكثر من ستّين جريحاً".
وعند سؤاله عن أهمّ موقف حصل ولم تمحه الذاكرة، ضحك الحاجّ أبو حسن مستهزئاً، وعاد بذاكرته إلى صباح اليوم الثامن والعشرين للحرب، وتحديداً عند الساعة الثامنة والنصف:
"تحدّث أحد ضبّاط العدوّ، يُدعى الكولونيل غازي، على الجهاز اللاسلكيّ، وبدأ بمخاطبة المجاهدين: (صباح الخير، نحن نطلب من المناضلين في بلدة عيتا الشعب تسليم سلاحهم ورفع أيديهم والذهاب إلى ناحية الجنوب الغربيّ حيث موقع الراهب، وبذلك تصبحون رهائن وسنستبدلكم بالأسرى، وإذا بقيتم في عيتا سندمّرها ونقتلكم فيها).
جاء الجواب سريعاً من أحد المقاومين على الجهاز: (إنّك تقاتل رجال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والإمام الحسين عليه السلام، إنّك تقاتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المخلصين، ادخلوا إلى عيتا الشعب فنحن بانتظاركم.. لن تدخلوها إلّا على أجسادنا). منذ تلك اللحظة، غاب الكولونيل غازي عن السمع، ولم يعد يجرؤ على مخاطبتنا"!
•كرم الزيتون
في كرم الزيتون، لم يكن يتوقّع العدوّ الإسرائيليّ وجود مجموعة للمقاومة، وكان يفصل بين الجنود والمقاومين حائط واحد، هذا ما أخبرنا به الحاجّ مهدي عند استقباله لنا في كرم الزيتون، وقد أُطلقت هذه التسمية على المواجهات التي دارت في بنت جبيل. يتذكّر الحاجّ مهدي تلك اللحظات وهو يرويها لنا: "انتشر مجاهدو المقاومة وتأهّبوا بانتظار تقدّم العدوّ، وتمّ رصد قوّة بحجم سَريّة تدخل المنطقة عند كروم الزيتون بالقرب من مثلّث التحرير.
عند أذان الصبح، وبينما كان الإخوة بين مصلٍّ ومتوضّئ، وصل العدوّ الإسرائيليّ إلى نقطة حسّاسة كانت هي المقتل، وعلى الفور، أطلق الإخوة النار، فقُتل قائد السَريّة، ودخل عناصر باقي القوّة في حالة ضياع، ولم يعرفوا ماذا عليهم أن يفعلوا.. سمعنا صراخهم، وشاهدنا تشتّتهم، وأثناء الاشتباكات، كنّا نتواصل بعضنا مع بعض عبر الجهاز، وكنّا نحصي عدد القتلى، فهذا يقول: (أنا قتلت اثنين)، وذاك يقول: (أنا قتلت ثلاثة)، وهكذا".
•مشاهد عزّ وصمود
وعن الشهداء ومشاهد العزّ، تذكّر الحاجّ مهدي بعينَيه الدامعتَين أهمّ المواقف الأبيّة لأهلنا الصامدين، وما قدّموه من تضحيات:
"استشهد الشهيد ناظم نصر الله في كرم الزيتون، في حين كان والده في المنزل الذي يبعد 120 متراً عن مكان الاشتباك، وكان يسمع صراخ جنود العدوّ ولم يكن يعرف أنّ ابنه يقاتل هناك. وكان الأب قد رفض أن يخرج من منزله طيلة فترة المعارك.
وهناك أيضاً الشهيد علي السيّد عليّ الذي رفض الخروج من منطقة الاشتباك، قائلاً: (إذا خرجت، سأخسر آخر فرصة لي)، والشهيد حسن فحص الذي أصيب بيده، وكان لديه خيار الانسحاب، ولكنّه صمد في المواجهات حتّى استشهد"!
•الغندوريّة تاج الانتصارات
في مثل تلك الأيّام، علت أصوات المجاهدين على أصوات القذائف، حتّى ظنّ بعض الصامدين في القرى المجاورة أنّ ثمّة عرساً في الغندوريّة. فعلاً، كان المجاهدون حينها يحتفلون بذكرى الثالث عشر من شهر رجب، ولادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند الإفطار، لقد كانوا صائمين حينها، لا بل قضوا أغلب أيّامهم وهم صائمون.
التقينا بالحاجّ أبو حسين، للحديث عن المواجهات الأخيرة في حرب تمّوز، وهو كان مشاركاً فيها، فبدأ حديثه عن تلك الليلة وقد وصفها بليلة البطولات، وبلحظة سكون جعلنا نستمع معه إلى هدوئها المليء بضجيج الطائرات:
"يومها، دخل علينا قائد المجموعة وقال لنا: (هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً). وفي تلك اللحظات، ملأ الصمت المكان، وإذ به يلتفت فلم يجد أحداً منّا، لقد أصبح وحيداً! فهو ترك لنا خيار البقاء أو المغادرة؛ لأنّ الحرب كانت صعبة، والقتال قاسياً للغاية، خصوصاً وأنّ المؤشّرات العسكريّة صباح الحادي عشر من آب كانت تنبىء بحصول إنزال في المنطقة، بعد أن برزت حركة كثيفة للمروحيّات، في الوقت الذي لم يهدأ فيه القصف أبداً، فكانت الأجواء في حالة جنون تامّ.
عند الثانية عشرة منتصف الليل، عمّ الهدوء المنطقة، وإذ بعمليّة الإنزال قد بدأت في إحدى المناطق!
في هذا الوقت، دخلنا على قائدنا وبأيدينا وصايانا، لقد كتب كلّ واحد منّا وصيّته ممهورة بـ"لبّيك يا حسين". ابتسم وقسمات وجهه باحت باستبشاره "فللّه رجال إذا أرادوا أراد".
نصب المجاهدون كميناً لقوّات العدوّ، وبنداء: "الله أكبر" و"يا زهراء" من المجاهدين كانت صرخات جنود العدوّ تتعالى، وعويلهم يصل إلى أرجاء البلدة كافّة.
وقع العدوّ بارتباك كبير، انتابته صدمة عندما علم بأنّ ثلاثة من المجاهدين فقط نفّذوا الكمين في وجه أعداد كبيرة من القوّة المعادية، وبقوا يقاتلون ساعات حتّى الرمق الأخير.
عند الساعة الرابعة والنصف من فجر ذلك اليوم، دخلت إلى البلدة القوّة الخاصّة في المقاومة الإسلاميّة، والتي لم تكن لتُقارن بالعدد الضخم للجنود الصهاينة، والذي قدّرناه بنحو 800 جنديّ.
إرادة المقاومين أحالت نارهم جهنّم، فأحرقتهم في المركبات التي صنعوها لتحميهم وتقيهم. لقد اعتقد العدوّ الإسرائيليّ أنّه سيدخل "قرية محروقة"، بحسب التعبير العسكريّ؛ أي قرية خالية تماماً، ولكنّه تفاجأ برجال المقاومة من حيث لم يحتسب".