تحقيق: أروى الجمّال
أربعة عشر عاماً مرّت على نصر تمّوز، وما زالت رسالة المجاهدين إلى سيّد المقاومة تسكن وجداننا: "... نحن -يا سيّدنا- ثابتون هنا... ما زلنا الوعد الذي قطعت، كالرعد على رؤوس الصهاينة... نحن -يا سيّدنا- سلاح الشيخ راغب، نحن وصيّة السيّد عبّاس، نحن -يا قائدنا- على قَسَمنا... نحن وعدك الصادق". ما زلنا نذكر دموع فخرنا بهم ورهاننا الدائم عليهم، وما زلنا نسأل: أيّ قلب كتبها؟!
•من قلب المعركة قبل 14 عاماً
التقط ورقته التي احتفظ بها من بقايا الركام، وأدار وجهه شطر بيروت، شاخصاً ببصره وقلبه النابض بحروف الشوق إليه. يومها لم تنم عيناه، ولم يغمض له جفن، كيف لا وهو قد جنّد كلّ وجدانه ليكتب إليه، فلم ينتظره يراعه، بل بدأ بالكلام مختصراً المسافات، فهو لا يملك من الوقت سوى لحظات وتغيب الشمس. التقيناه وفي جعبتنا الكثير من الأسئلة: كيف؟ ولماذا؟ وماذا حصل؟
المجاهد الحاج "أبو حسن"، المقاوم الخمسينيّ بشيبته البيضاء، التي تبوح بأنّه من الرعيل الأوّل في المقاومة والذين خَبِروا الساحات، اجتمع ببعض المجاهدين، ساعدوه ببعض الجمل، حتّى اكتملت الرسالة... وكانت تُحدّث عمّا يجول في قلوب المجاهدين الآخرين.
•حافزنا: قصف البارجة ومواقف الشرفاء
بينما كانت المعادلة أن يقوم سلاح جوّ العدوّ بقصف مقارّ قيادة المقاومة كلّها لشلّ السيطرة، إلّا أنه حصل ما لم يكن في الحسبان. يقول المجاهد الحاج "أبو حسن": "كان قصف البارجة الحربيّة المعادية حافزاً لكتابة الرسالة، وقد ترسّخت الفكرة أكثر من خلال كلمات الأمين العامّ للعدوّ: (أنتم تقاتلون أبناء محمّدٍ وعليّ وفاطمة)، وللمقاومة: (أنتم الرهان بتحقيق النصر). ولقد شعرنا بضرورتها وأهمّيّتها أكثر لِما كنّا نسمعه من مواقف وكلمات صادقة مشرّفة من أهلنا الشرفاء والأوفياء، وهم يقفون فوق الركام ويقولون: فداء لسيّد المقاومة. وفيما غبار القصف لم ينقشع بعد، باشرنا بكتابة الرسالة. كان كلّ همّنا أن نحدّث الناس ونطمئنهم عنّا وعن القائد، وتكون كرسالة تقدير لكلّ ما يقدّمونه لنا من صمود ودعم. وأيضاً أردنا أن نؤكّد للسيّد أنّنا على العهد والقسم، وأننا فداء لأهل الوفاء والنصر".
•بدأت نقطة الصفر
يخبرنا ببسمةِ عينيه فيما يتذكّر مشهداً جميلاً: "أتذكّر أنّنا أنجزنا عملاً ميدانيّاً نوعيّاً، كان الوقت عصراً، وكنتُ أنتقل من مكان إلى آخر لتنفيذ مهمّة في ظلّ وجود الطائرات والقصف. وصلت إلى مكان معيّن، جمّعت بعض الشباب المجاهدين وأخبرتهم بفكرة الرسالة وضرورة إنجازها، وكنّا على اطمئنان تامّ أنّ النصر سيتحقّق على أيدينا، ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ (آل عمران: 160)، لذلك افتتحنا الرسالة بآية قرآنية نابعة من القلب والعزيمة، تُعبّر عن شعور المجاهدين، كُتبت بحروف الشوق والحنين وأمل بنصر قريب".
•المغامرة الأصعب
"كتبنا الرسالة بعد أن مضى على العدوان سبعة عشر يوماً، في 28 تمّوز 2006م. بقيت مهمّة إيصال الرسالة، وهي المرحلة الأصعب"، بحسب "أبو حسن"، "وهنا تقرَّر أنْ يحملها أحد المجاهدين إلى بيروت، كان يدعى (جلال). لا أنسى هذا اليوم، حين أخبرني بالمغامرة، وأنّه توكّل على الله وانطلق، على الرغم من الصعوبات القاسية، خصوصاً أنّ الطرقات والجسور كانت تتعرّض لقصف عنيف، استغرقت المهمّة ساعات عديدة حتّى وصل إلى بيروت. حتّى إنّه قال: (أطبقت بيدي على الرسالة طيلة الطريق، ففي حال قُصفت سيّارتي، أتمكّن من تركها بسرعة والرسالة في يدي)، ولكن الحمد لله، تمّت المهمّة، ووصلت الأمانة".
•وصلت الأمانة... وماذا بعد؟!
"في المحور، سرت طمأنينة بيننا بعد إرسالها، وتابعنا مهامنا، لكن بين الحين والآخر كنّا نتساءل: تُرى ماذا حصل بكِ أيّتها الرسالة عندما أصبحتِ بين يدي سماحته؟ كيف قرأ كلماتنا؟ كم نغبطك! هل هدأت روحه؟ هل اطمئنّ علينا؟ تُرى ماذا سيكون ردّه؟ كنّا نتخيّل شعوره وهو يقرأ بعض الأسطر:
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29)، صدق الله العليّ العظيم.
سماحة الأمين العام المفدّى، سلامٌ من الله عليك ورحمته وبركاته. السلام عليك يا حبيبنا، السلام عليك يا عزيزنا، السلام عليك يا نور الجهاد والمجاهدين. عذراً -يا سيّدنا- أنت تعرفنا جيّداً ونحن كذلك نعرفك، وليس بجديد علينا ما سمعناه منك بالرهان علينا لتحقيق النصر)"(1).
•وصلتني رسالتكم
وصلت الرسالة بسلام، وامتزجت الكلمات بنبضات قلبه، فهو القائد الرحيم بأبنائه المجاهدين، كانت رسالة المجاهدين جزءاً من مشهد قلّما يحصل في الحياة العسكريّة، لم يكتمل إلّا بالمفاجأة الثانية التي فاجأت المجاهدين أيضاً، ردّ سماحة الأمين العامّ على المجاهدين برسالة أبكت العيون وأشعرتنا بالفخر والاعتزاز، يقول الحاج "أبو حسن": "لقد سمعها فعلاً وقرأها وعاش كلماتها، عندما جاوبَنا: أمّا للمجاهدين فأقول لهم: وصلتني رسالتكم وسمعت مقالتكم، وأنتم والله كما قلتم، نعم، أنتم الوعد الصادق، وأنتم النصر الآتي بإذن الله". يتابع "أبو حسن": "يومها لم يكن لديّ وسيلة لأسمع الردّ إلّا عبر إذاعة النور، وكان معنا راديو صغير ما زلت أحتفظ به، كنّا نركض بالراديو من مكان إلى آخر لنلتقط الموجة، ولنستمع إليه رغم التشويش. كان شعورنا لا يوصَف".
•كيف تلقّاها السيّد المفدّى
لأوّل مرة في تاريخ الحروب العسكريّة، يشارك القائد جنوده الصعاب، ويراهن عليهم عبر رسالة متلفزة، فقد صرّح سماحة الأمين العامّ عبر مقابلة تلفزيونيّة بعد النصر أنّه سمع بمضمون الرسالة للمرّة الأولى، عبر شاشة المنار، وقرّر أن يرسل رسالة للمجاهدين، يقول "أبو حسن": "لا أنسى أنّه غصَّ للمرّة الثانية في هذا اللقاء عندما ذَكَر الرسالة؛ لأنّ المجاهدين يعنون له الكثير، وقال للمُحاوِر إنّه تأثّر بالرسالة كثيراً، وكان يخاطبنا من قلبه".
وبعبرة العين يتذكّر "أبو حسن" كلمةً وردت في رسالة السيّد: "لو كنت أعلم أنّ سماحة السيّد سيكتب هذه الجملة: (أُقبّل رؤوسكم وأقدامكم) لما كتبنا الرسالة أبداً؛ لأنّنا لا نحبّ أن نسمعها منه، وخصوصاً أنّ عينَيه قد دمعتا، وهذا يَعزُّ علينا كثيراً".
•أُحيّيكم رجال الله
بقيت رمزيّة هذه الرسالة في ذاكرة الأمّة لتكون مدرسة عسكريّة، تُعلّمنا كيف تكون العلاقة الحقيقيّة بين رجال الله أصحاب البصيرة، الذين يتّسمون بالشدّة على الكافرين، والرحمة والودّ للمؤمنين، وبين قائدهم الأبَ الحنون في أشرس المعارك، ليولّد من هذه العلاقة نصرٌ بحجم أمّة.
1. تاريخ الرسالة 28/7/2006م.