مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

لقاء الحبيب: قبسٌ من نور عليّ عليه السلام(3)

السيّد أحمد إبراهيم صوليّ
 

لو أردنا أن نرجع إلى الأسس والأصول التي صقلت شخصيّة القائد الحكيم الإمام عليّ الخامنئيّ دام ظله، والتي ساهمت في تكوين وإبراز المَلَكات القياديّة الفريدة فيه، لاحتجنا إلى الكثير من الوقت والجهد لاستقصاء وتحليل مراحل حياته الشريفة والأدوار التي اضطلع بها منذ ريعان شبابه وإلى يومنا هذا الذي نحن فيه، وهذا ما لا تتيحه لنا هذه الصفحات، لكن ما لا يُدرك كُلُّهُ لا يُترك جُلُّهُ.

•اللوحة السرّ
أثناء محاولتي فهم وتحرّي بعض جوانب هذه الظاهرة المميّزة في شخصيّة الإمام الخامنئيّ دام ظله، أكثر ما لفت نظري هو ما تواتر نقلَهُ عمّن تشرّف بلقاء سماحته دام ظله في مكتبه في "بيت القيادة" في العاصمة الإيرانيّة "طهران". فمضافاً إلى بساطة ذلك المكان المُعدّ لاستقبال أكبر الزعماء الدوليّين والقادة السياسيّين والعسكريّين وسائر الضيوف، تبرز بشكل لافت لوحةٌ خُطَّ عليها حديثٌ شريفٌ لأمير المؤمنين ومولى الموحّدين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، والتي استطعتُ من خلالها أنَّ أفكّ سرّ جانبٍ مهمّ من جوانب الشخصيّة المعنويّة والروحيّة لهذا القائد العظيم، والتي صبغت كيانه واندكّت بوجوده، بحيث جعلته منسجماً تمام الانسجام على مستوى مبتنياته الدينيّة والفكريّة وحركته الخارجيّة الظاهريّة.

•"من نصَب نفسه للناس إماماً"
من خلال مطالعتي لمجموعةٍ من خطابات وكلمات سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله، اتّضح لي تعلّق قلبه وعقله بالكلمة المرويّة والمنقولة عن جدّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام والتي يقول: فيها: "مَنْ‏ نَصَبَ‏ نَفْسَهُ‏ لِلنَّاسِ‏ إِمَاماً، فَلْيَبْدَأْ [فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ] بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِم"(1)، فجعلها وصورةَ الإمام الخمينيّ الراحل قدس سره نصب عينيه، في مقابل الكرسيّ الذي يجلس عليه، لتكون في مرمى نظره دائماً، وليحكم بها حركته وسلوكه أبداً، وليسير وفقها ووفق مبادئ وأسس خطّ ونهج الإمام الخمينيّ قدس سره، خطّ الإسلام المحمّدي العلويّ الأصيل.

قصّة نصب هذه اللوحة وهذه الكلمة على ذاك الجدار لم تكن محض صدفة، وإنَّما كانت قضيّةً مدروسة ومخطّطاً لها وهادفة، هدفها تذكير النفس وتأديبها وضبطها ومنعها عن الجموح والانجراف، والانحراف عن جادّة الحقّ والصواب، فالسلطة وكرسيّ الحكم يغرّان ولا بدّ من التحرّز والتوقّي منهما، وهذا ليس بخافٍ على مثل الإمام الخامنئيّ دام ظله القارئ والمتعمّق بسير الأوّلين وأحوال السابقين.

•"لكي يبقى أمام ناظريّ"
وبعد ملاحقتي ومتابعتي للكثير من خطاباته دام ظله، وجدت أنَّه كثيراً ما استشهد بهذا الحديث الشريف، وأكثر ما استوقفني ذكرُهُ لقصّة طلبه شخصيّاً كتابته وخطّه وجعله في إطارٍ ليُعلَّق أمام ناظريه، حيث يقول في محضر أهل العلم من علماء "كرمانشاه": "ونذكر أيضاً المرحوم السيّد نجومي (رضوان الله عليه)(2)، العالم الفاضل والدارس المجدّ، والذي كان في الوقت نفسه فنّاناً حقيقيّاً. ذهبت لمنزله في إحدى زياراتي لكرمانشاه بعد الثورة وقبل فترة رئاسة الجمهوريّة، وشاهدت أعماله الفنّية عن قُرب. وبعد رحيل الإمام الخمينيّ قدس سره، بعث لي أحد أعماله الفنّيّة. طلبتُ منه أن يكتب لي الحديث الشريف: "مَنْ‏ نَصَبَ‏ نَفْسَهُ‏ لِلنَّاسِ‏ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ..."، ليكون أمام عينيّ، ولا ننسى واجب تعليم الذات. وكتب هذا الحديث بخطٍّ جميلٍ جدّاً على لوحة فجعلتها في إطار، وعلّقتها في الغرفة أمام عينيّ؛ "مَنْ‏ نَصَبَ‏ نَفْسَهُ‏ لِلنَّاسِ‏ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ...". إذا تحقّق هذا التعليم، كان تعليم الغير سهلاً. هذه هي مشكلتنا"(3).

•موعظة لكلّ الظروف
لقد أدرك إمامنا القائد دام ظله أهمّيّة هذه القاعدة والضابطة التي جعلها أميرُ المؤمنين عليه السلام في قالب هذه الموعظة درساً لكلّ من يتصدّى لممارسة الإمامة والزعامة على الناس، ومن هذا المُنطلق نجده كثيراً ما تلاه على منابر الجمعة وفي لقاءاته العامّة مع أئمّة الجمعة وطلبة العلوم الدينيّة وأركان الحكومة والنظام، والمسؤولين في التوجيه العقائديّ والسياسيّ للقوى الأمنيّة والعسكريّة، مستفيداً منه الدروس والعبر والضوابط التي لا بدّ أن تحكم أيّ نشاطٍ وحركة ترتبطان بالشأن العامّ والمجتمع.

1- سيرة وأفعال من يكون إماماً للناس
يقول دام ظله في إحدى خطب صلاة الجمعة في طهران: "لقد أعطى أمير المؤمنين عليه السلام درسه الخالد لكلّ الذين يمارسون دوراً على الصعيد السياسيّ لمجتمعاتهم، حيث يقول عليه السلام: (مَنْ‏ نَصَبَ‏ نَفْسَهُ‏ لِلنَّاسِ‏ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ...‏)، إذ بإمكان اللسان النطق بكثير من الأشياء، أمَّا ما يأخذ بيد الإنسانيّة لسلوك صراط الله تعالى فهو سيرة وأفعال من يقع عليه الاختيار ليكون إماماً للناس، سواء على مستوى المجتمع أم أدنى مستوى من ذلك.

ثمّ يقول عليه السلام: (... وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِم)، هذا هو منطق أمير المؤمنين عليه السلام ودرسه، فالحكومة ليست ممارسةً للسلطة فحسب، بل هي نفوذٌ في القلوب واستقرارٌ في العقول، فمن كان في هذا الموقع أو وضع نفسه فيه عليه بادئ ذي بدء أن ينهمك دوماً بتهذيب نفسه وإرشادها ومحاسبتها ووعظها"(4).

2- التلازم بين السلطة والأخلاق

"من المواصفات التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام لمن يتمتّع بالأهليّة لإمامة الناس، أو تولّي شأن من شؤونهم، وهذا يبتدئ من زعامة البلد ويسري إلى ما هو أدنى من الدوائر والمؤسّسات، كما يصدق على القاضي أو المُتصدّي لدائرةٍ من دوائر هذا الجهاز الوسيع، وكان عليه السلام يوصي ولاته وقادته بها، نجد في قوله عليه السلام: (... فَكَانَ‏ أَوَّلَ‏ عَدْلِهِ‏ نَفْيُ‏ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ، يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ...)(5).

من هنا يأتي التلازم بين السلطة والأخلاق في الإسلام، فالسلطة إنَّما هي ظالمة غاصبة إذا ما خلت من الأخلاق. يجب أن تكون سبل الوصول إلى السلطة والمحافظة عليها سُبُلاً أخلاقيّة، فلا معنى في الإسلام للتشبّث بأيّ وسيلةٍ لبلوغ السلطة، وليس ثمّة حقٌّ لأيٍّ كان، فرداً أو فئةً، في اللجوء لأيّ سبيلٍ أو وسيلةٍ للإمساك بالسلطة، كما هو شائعٌ في عصرنا هذا في الكثير من بلدان العالم، فالسلطة المتأتّية أو التي تجري المحافظة عليها عن هذا السبيل إنَّما هي سلطةٌ ظالمةٌ وتفتقد الشرعيّة"(6).

3- اعتماد السبل الصالحة والأخلاقيّة
إنَّ للأساليب أهمّيّتها في الإسلام، شأنها في ذلك شأن القيم، فكما يهتمّ الإسلام كثيراً بالمُثل، فإنَّ الأساليب تحتلّ تلك الأهمّيّة نفسها، ولا بدّ من أن تتجسّد هذه المُثل عن طريق الأساليب أيضاً.

وإذا ما أردنا لحكومتنا أن تكون إسلاميّةً بالمعنى الحقيقيّ لهذه الكلمة، فما علينا إلّا السير في هذا الطريق دون مواربةٍ، ويجب على المسؤولين في شتّى الحقول، بدءاً من رؤساء السلطات الثلاث ومروراً بالمسؤولين من الدرجة الوسطى كلّهم جميعاً، أن تنصبّ جهودهم في استثمار السُّبل الصالحة والأخلاقيّة لإنجاز المهامّ الملقاة على عواتقهم وتحقيق أهدافهم، وقد يؤدّي ذلك إلى بعض الإخفاقات والمتاعب في مجال بلوغ الحكم، غير أنَّهُ من المؤكّد عدم صواب اللجوء للوسائل غير الأخلاقيّة من وجهة نظر الإسلام وأمير المؤمنين‏ عليه السلام، فهذا هو منهج عليٍّ عليه السلام الذي يتعيّن علينا اقتفاؤه"(7).
 

1.نهج البلاغة، ج1، ص480، الكلمة رقم 73.
2.آية الله السّيّد مرتضى نجوميّ رحمه الله من محافظة "كرمانشاه" الإيرانيّة، عالم مجتهد مجاز، رائد في الفنّ. شارك السيّد النجوميّ رحمه الله في النشاطات السياسيّة إبّان الثورة الإسلاميّة في إيران منها كتابة البيانات التي كانت تدعو أبناء الشعب إلى الثورة في وجه الطاغية الشاه المقبور امتثالاً لأمر الإمام الخمينيّ الراحل قدس سره. توفّي رحمه الله يوم الاثنين الموافق لـ 16/11/2009م.
3.من كلمةٍ للإمام الخامنئيّ دام ظله خلال لقائه علماء الدين الشيعة والسنّة بكرمانشاه بتاريخ: 12/10/2011م الموافق لـ 14 ذي القعدة 1432هـ/ق.
4.الإمام عليّ عليه السلام، سلسلة في رحاب الوليّ الخامنئيّ دام ظله، إصدار جمعية المعارف الإسلاميّة، ص63.
5.نهج البلاغة، ج1، ص119، الخطبة رقم 87.
6.الإمام عليّ عليه السلام، (م.س)، ص63.
7.من خطبة صلاة الجمعة التي ألقاها الإمام الخامنئيّ دام ظله في طهران بتاريخ 16/3/2001م، الموافق لـ20 ذي الحجّة 1421هـ/ق .

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع