لقاء مع المجاهد الجريح عماد خشمان
وفي زحمةِ العمل وتراكضِ الأيّام، أحنُّ إلى ملاحقة أبي لي ولرفيقي في المحاور.. كنّا طفلين شقيّين، لم نرضَ -إلّا رغماً عنّا- العودة إلى منزلَينا، وكلّما سنحت الفرصة للهروب، توجّهنا إلى حيث المجاهدون يحمون أطراف الضاحية الجنوبيّة، فنحمل سلاحاً أطول منّا.. كان جميع مَن حولي مجاهدين؛ والدي، إخوتي، جيراننا.. فلماذا لا أكون معهم؟! أهو العمر؟! الموقف لا يُقاسُ بعدد السنين.. ولكنّ أبي أراد تجنيبي ذلك حتّى يشتدّ عودي، مع أنّه كان ممّن يدرك ضرورة أن يقسو عظم الإنسان باكراً جدّاً.
* يوم اشتدّ عودي
كلّما مكثتُ في مكانٍ، جاء من يقول لي: "والدك يريدك..". إنّه الفخُّ الذي لم أنجح بالتفلّت منه، فـ" السلاح مسؤوليّة"، هكذا كان يقول لي دوماً، إلى أن اجتاح العدوّ الإسرائيليّ لبنان، وكنتُ قد بلغت السادسة عشرة من عمري، يومها، اطمأنّ إلى أنّي في مركز الإشارة أقوم بواجبي على أكمل وجه.
* مشاهد ألمٍ وعزّ
لم تكن بدايات شبابي سهلة، فبين الصراعات الطائفيّة واجتياح العدوّ الإسرائيليّ، انبثق الكثير من الوجع. وبين بيروت والجنوب مشاهد كثيرة حفرت عميقاً في نفسي، منها وجهُ عمّتي التي وقفت بين الناس المتجمهرة أمام جنود العدوّ الإسرائيليّ، الذين جمعوا الشباب ليسوقوهم إلى معتقل أنصار؛ يومها، أخذوا من أبنائها الأربعة ثلاثةَ شبّان، فما كان منها إلّا أن أخذت بقميص ابنها الرابع ودفعته لهم؛ هزمتهم قوّتها وقدرتها على انتزاع قلبها من بين ضلوعها على أن لا تضعف أمامهم.. وجهها، ووجه العميل المغطّى بقناع، ووجه الإسرائيليّ، اختصرت أمامي حقيقة الصراع.
* تضليل مسير العدوّ
السلاحُ قليل، والشباب محاصر، ولكنّنا جيل فعلنا الكثير، من طريق "أبو الأسود" المؤدّية إلى صور، وحتّى قرية "عدلون"، كنتُ أنتزع وصديقي في كلّ يوم اللافتات العبريّة التي ترشد القوافل الصهيونيّة إلى طريقها، ونرميها في الحقول بين القصب والحشائش. ثمّ بدأنا بنقل السلاح. وفي خضمِّ هذه الثورة، عدتُ أدراجي بناءً على رغبة أبي بالتزام المقاعد الدراسيّة، فيما إخوتي يقارعون العدوّ. وكانت معركة الدفاع عن أهلنا الفقراء والمستضعفين في الضاحية الجنوبيّة، أصبت خلالها في بطني في مواجهة مع جيش السلطة الفئويّ عام 1983م، وكانت الإصابة الأولى.
* "جملة واحدة قلبت حياتي"
كنتُ في الطريق عندما التقيتُ بأحد مسؤولي المقاومة، فسلّم عليّ وسألني عن أحوالي، فأجبته أنّني أتابع في المهنيّة دراسة الرسم المعماريّ، فابتسم مربّتاً على كتفي قائلاً: "عماد؛ نحن بحاجة ماسّة إلى مقاومين". تغيّر كلّ شيء، حتّى أبي. جملة واحدة قلبت حياتي ووضعتني في المكان الذي أريد. وبدأت عملي التنظيميّ في المقاومة، مشاركاً في المهمّات الجهاديّة بين بيروت والجنوب. في تلك الفترة أصبت في ركبتي اليمنى خلال إحدى المهمّات الجهاديّة إبّان اعتداء عمليّة القبضة الحديديّة الصهيونيّة جنوبي الليطاني عام 1985م، وكانت إصابتي الثانية. كنّا نحبك الليل بالنهار، فلم يعرف التعب لنا طريقاً، فالتحدّياتُ أكبر من أن نستكين للحظات في وقت كانت الأوضاع الأمنيّة تتدهور فيه بسرعة.
* رصاصٌ هشّم العظام
ذات يومٍ، كنّا ثلاثة مجاهدين في سيّارة تمّ رصدها، ترجّل أحدنا لزيارة أحد الإخوة الذي استشهد لاحقاً، وأكملتُ مع الشاب الآخر أمتاراً قليلة.. ماذا حصل؟ لستُ أدري! خرجنا من السيّارة بين الرصاص خافضين رأسينا، وقد أُصبتُ في فخذي اليسرى. اقترب المسلّحون منّا؛ إذاً، وقعنا في كمين! قرأنا الشهادتين.. الأسلحة المصوّبة نحونا تريد قتلنا. صرتُ أتخبّطُ بدمي، والرصاص يرفعني تارةً ويُسقطني أخرى. استقرّت أكثر من ثلاث عشرة رصاصة في ساقي اليسرى، فهشّمتها وطحنت العظام، وعرفتُ أنّني فقدتها، وشعرت بإصابة الحوض والخاصرة اليمنى أيضاً. وسرعان ما جاء مسلّح ووضع فوهة البندقيّة على رأسي. حانت اللحظة، وما إن أغمضتُ عينيّ مسلّماً أمري لله، حتّى جاءه صوتٌ أوقفه.
* "وحيداً مع عكّازيَّ"
نُقلتُ إلى المستشفى على عجل. كان النزيف شديداً ولم يستطيعوا السيطرة عليه. أربعة أشهر بين أكناف الدعاء والقرآن. لم أكن واعياً لشيء إلّا لوجه أبي الذي استشهد قبل أشهر قليلة من إصابتي، وصوت أمّي يصل ترنيماً إلى قلبي بدعاء ملتهب الحروف.
خرجتُ من المستشفى على عكّازين. لقد غادرني ذلك الفتى الشقيّ الذي لا يفتأ يركضُ في الأزقّة، وفقدتُ الشاب الذي مكانه الجبال والأودية، وكان عليَّ أن أكون شخصاً جديداً، غيّرت حياته الكثير من الأمور؛ فقد استشهد أخي الصغير، ثمّ استشهدت أمّي، وخلت الدارُ عليّ وعلى عكّازين كان عليّ بناء علاقة جيّدة معهما، فهما ستلازمانني طوال ما تبقّى من هذا العمر.
* على ثلاثة أقدام
الآن، مضى على إصابتي أربعة وثلاثون عاماً، بنيتُ فيها حياتي على قدمٍ وساق. أتوجّه إلى عملي صباحاً مع عكّازين صارا جزءاً منّي، وأعود إلى منزلي الذي ساعدتني زوجتي بتأسيسه على الحبّ والرضى.
في خندقٍ من خنادق الجهاد المكتبيّ أقاوم، ولا أشعر أنّني أفتقد لشيء. حاليّاً أتابع دراستي الجامعيّة في مجال الإعلام والعلاقات العامّة، وعندما تعكسُ الشمس أشعّتها عليّ وأنا أسير في الطريق، أرى أمامي ظلّاً لرجلٍ يمشي على ثلاث أقدام، استطاع بناء وفعل الكثير من الأشياء في هذه الحياة التي لم يظنّها ستطول، غير أنّ الصبر والإرادة منحاها المزيد والمزيد من الوقت.
(*) مقتبس من البرنامج الإذاعي (بوح الجراح)، إعداد الكاتبة نسرين إدريس قازان.